المسكين فاقد الوعي بضع دقائق وانهال عليه الجندي ضربا وسبا وشتما ، ورق قلبي لذلك الشيخ وظننت أنه مات ودفعني فضولي وأخذتني الحمية وقلت للجندي : حرام عليك لماذا تضربه وهو يصلي ؟ فانتهرني قائلا : أسكت أنت ولا تتدخل حتى لا أصنع بك مثله .
ولما رأيت في عينيه الشر تجنبته وأنا ساخط على نفسي العاجزة عن نصرة المظلوم ، وعلى السعوديين الذين يفعلون بالناس ما بدا لهم بدون رادع ولا وازع ولا من ينكر عليهم ، وكان بعض الزائرين حاضرا فمنهم من حوقل(1) ومنهم من قال : إنه يستحق ذلك لانه يصلي حول القبور وهو محرم ، فلم أتمالك وانفجرت على هذا المتكلم قائلا : من قال لك أن الصلاة حول القبور حرام ؟ أجابني : قد نهى رسول الله عن ذلك .
فقلت بدون وعي : تكذبون على رسول الله ، وخشيت أن يتألب علي الحاضرون أو ينادوا الجندي فيفتك بي ، فتلطفت قائلا : إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله قد نهى عن ذلك فلماذا يخالف نهيه الملايين من الحجاج والزوار ويرتكبون حراما لانهم يصلون حول قبر النبي وقبر أبي بكر وقبر عمر في المسجد النبوي الشريف ، وفي مساجد المسلمين في كل العالم الاسلامي ، وعلى افتراض أن الصلاة حول القبور حرام ، أفبهذه الغلظة والشدة نعالجها ؟ أم باللين واللطف ، واسمحوا لي أن أروي لكم قصة ذلك الاعرابي الذي بال في مسجد رسول الله بحضرته وبحضرة أصحابه بدون حياء ولا خجل ، ولما قام إليه بعض الصحابة شاهرين سيوفهم ليقتلوه ، نهاهم رسول الله صلى الله عليه وآله ومنعهم وقال : « دعوه ولا تزرموه وهريقوا على بوله دلوا من الماء ، إنما بعثتم لتيسروا لا لتعسروا ، لتبشروا لا لتنفروا » وما كان من الصحابة إلا أن امتثلوا أمره ، ونادى رسول الله الاعرابي وأجلسه إلى جانبه ورحب به ولاطفه وأفهمه أن ذلك المكان هو بيت الله ولا يمكن تنجيسه فأسلم الاعرابي ولم ير بعد ذلك إلا وهو آت المسجد في أحسن ثيابه وأطهرها ، وصدق الله العظيم إذ يقول لرسوله : ( ولو كنت فظا
____________
( 1 ) حوقل : قال لا حول ولا قوة إلا بالله .

(84)
غليظ القلب لانفضوا من حولك )(1) .
وتأثر بعض الحاضرين عند سماع القصة فاختلى بي أحدهم إلى جانب وسألني : من أين أنت : قلت من تونس : فسلم علي وقال : يا أخي بالله عليك أن تحفظ نفسك ولا تتكلم مثل هذا هنا أبدا . أنصحك لوجه الله . وازددت بغضا وحنقا على هؤلاء الذين يدعون أنهم حماة الحرمين ويعاملون ضيوف الرحمن بهذه القسوة ، ولا يقدر أحد أن يبدي رأيه أو يروي أحاديث لا تتفق وما يروونه ، أو يعتقد غير ما يعتقدونه .
رجعت إلى بيت الصديق الجديد الذي لم أعرف اسمه وقد جاءني بالعشاء وجلس مقابلي وقبل أن نبدأ في الاكل سألني أين ذهبت ، ورويت له قصتي من أولها إلى آخرها وقلت في معرض كلامي : يا أخي أنا بصراحة بدأت أنفر من الوهابية وأميل إلى الشيعة ، فتغير وجهه وقال لي : إياك أن تتكلم مثل هذا الكلام مرة اخرى ! وغادرني ولم يأكل معي ، وانتظرته طويلا حتى غلبني النوم ، وأفقت باكرا على أذان المسجد النبوي فرأيت أن الاكل لا يزال في مكانه كما تركته وعلمت بأن مضيفي لم يرجع ، وتشككت في أمره وخشيت أن يكون من المخابرات ، فنهضت مسرعا وغادرت البيت بدون رجعة وقضيت كامل اليوم في الحرم النبوي أزور وأصلي وأخرج لقضاء الحاجة والوضوء وبعد صلاة العصر سمعت أحد الخطباء يلقي درسا وسط جماعة من المصلين ، واتجهت وعلمت من بعض الجالسين أنه قاضي المدينة ، واستمعت إليه وهو يفسر بعض آيات من الذكر الحكيم ، وبعد ما أتم ، درسه وهم بالخروج استوقفته وسألته قائلا : سيدي هل لك أن تعطيني مدلول الآية من قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )(2).
فمن هم أهل البيت المقصودون بهذه الآية ؟
____________
( 1 ) سورة آل عمران : آية 159 .
( 2 ) سورة الاحزاب : آية 32 .

( 85 )
أجابني على الفور : هم نساء النبي وقد بدأت الآية بذكرهن ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء أن اتقيتن ).
قلت له : إن علماء الشيعة يقولون بأنها خاصة بعلي وفاطمة والحسن والحسين ، وقد اعترضت عليهم طبعا وقلت بأن بداية الآية تقول : «يا نساء النبي» ، فأجابوني لما كان الكلام عليهن جاءت الصيغة كلها بنون النسوة ، فقال تعالى : لستن ، ان اتقيتن ، فلا تخضعن ، وقلن ، وقرن في بيوتكن ، ولا تبرجن ، وأقمن الصلاة ، وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ، ولما كان هذا المقطع من الآية خاضعا بأهل البيت تغيرت الصيغة فقال : ليذهب عنكم ، ويطهركم ، فنظر إلي رافعا نظارته وقال : إياك وهذه الافكار المسمومة ، إن الشيعة يؤولون كلام الله على حسب أهوائهم ولهم في عليّ وذريته آيات لا نعرفها وعندهم قرآن خاص يسمونه مصحف فاطمة ، فأنا أحذرك أن يخدعوك .
قلت : لا تخف يا سيدي فأنا على حذر وأعرف عنهم الكثير ولكني أردت أن أتحقق ، قال : من أين أنت ، قلت من تونس ، قال فما اسمك ؟ قلت : - التيجاني فضحك مفتخرا ، وقال هل تدري من هو أحمد التيجاني ؟ قلت هو شيخ الطريقة ، قال وهو عميل للاستعمار الفرنسي ، وقد تركز الاستعمار الفرنسي في الجزائر وتونس بإعانته ، وإذا زرت باريس فاذهب للمكتبة القومية واقرأ بنفسك القاموس الفرنسي في باب « أ » فسترى أن فرنسا أعطت وسام الشرف لاحمد التيجاني الذي قدم لها خدمات لا تقاس فتعجبت من قوله وشكرته وودعته وانصرفت .
بقيت في المدينة أسبوعا كاملا حيث صليت أربعين صلاة وزرت المزارات كلها ، وكنت دقيق الملاحظة خلال إقامتي هناك فلم أزدد من الوهابية إلا بعدا ونفورا وارتحلت من المدينة المنورة إلى الاردن حيث التقيت أصدقاء هناك كنت تعرفت عليهم في ملتقى الحج الذي أشرت إليه سابقا .
وبقيت معهم ثلاثة أيام ، ووجدت عندهم حقدا على الشيعة أكثر مما عندنا في تونس فالروايات نفسها ، والاشاعات ذاتها ، وليس هناك واحد سألته عن

( 86 )
الدليل إلا وقال بأنه يسمع عنهم ولم أجد احدا منهم جالس الشيعة أو قرأ كتابا للشيعة ولا حتى التقى شيعيا في حياته .
رجعت من هناك إلى سوريا وفي دمشق زرت الجامع الاموي وإلى جانبه مرقد رأس سيدنا الحسين كما زرت ضريح صلاح الدين الايوبي والسيدة زينب ومن بيروت قطعت مباشرة إلى طرابلس ودامت الرحلة أربعة أيام في البحر استرحت خلالها بدنيا وفكريا واستعرضت شريط الرحلة التي أوشكت على النهاية فإذا بي أستنتج ميلا واحتراما للشيعة وفي نفس الوقت بعدا ونفورا وسخطا على الوهابية التي عرفت دسائسها وحمدت الله على ما أنعم به علي وما أولاني من عناية ورعاية داعيا إياه سبحانه وتعالى أن يهديني إلى طريق الحق .
ورجعت إلى أرض الوطن وكلي شوق وحنين إلى أسرتي وأهلي وأصدقائي ، ووجدت الجميع بخير ، وفوجئت عند دخولي إلى منزلي بكثرة الكتب التي وصلت قبلي وعرفت مصدرها .
ولما فتحت تلك الكتب التي ملات البيت ازددت حبا وتقديرا لاولئك . الذين لا يخلفون وعدهم وقد وجدت هنا أضعاف ما أهدي إلي هناك

***

( 87 )

بداية البحث

فرحت كثيرا ونظمت الكتب في بيت خاص سميته بالمكتبة ، واسترحت أياما ، وتسلمت جدول أوقات العمل بمناسبة بداية السنة الدراسية الجديدة فكان عملي ثلاثة أيام متوالية من التدريس وأربعة أيام متوالية من الراحة في الاسبوع.
وبدأت أقرأ الكتب فقرأت كتاب عقائد الامامية ، وأصل الشيعة وأصولها وارتاح ضميري لتلك العقائد وتلك الافكار التي يرتئيها الشيعة ، ثم قرأت كتاب المراجعات للسيد شرف الدين الموسوي ، وما أن قرأت منه بضع صفحات حتى استهواني الكتاب وشدني إليه شدا فكنت لا أتركه إلا غضبا وكنت أحمله في بعض الاحيان إلى المعهد ، وأدهشني الكتاب بما حواه من صراحة العالم الشيعي وحله لما أشكل على العالم السني شيخ الازهر ، وجدت في الكتاب بغيتي لانه ليس كالكتب التي يكتب فيها المؤلف ما يشاء بدون معارض ولا مناقش فالمراجعات هو حواريين عالمين من مذهبين مختلفين يحاسب كل منهما صاحبه على كل شاردة وواردة ، على كل صغيرة وكبيرة متوخيين في ذلك المرجعين الاساسيين لكافة المسلمين وهما القرآن الكريم والسنة الصحيحة المتفق عليها في صحاح السنة . فكان الكتاب بحق يمثل دوري كباحث يفتش عن الحقيقة ويقبلها أينما وجدت وعلى هذا كان الكتاب مفيدا جدا وله فضل عليّ عميم .
ووقفت مبهوتا عندما كان يتكلم عن عدم امتثال الصحابة لاوامر الرسول ويسوق لذلك عدة أمثلة ، ومنها حادثة رزية يوم الخميس ، إذ لم أكن أتصور أن

( 88 )
سيدنا عمر بن الخطاب يعترض على أمر رسول الله ويرميه بالهجر ، وظننت بادئ الامر أن الرواية هي من كتب الشيعة ، وازدادت دهشتي وحيرتي عندما رأيت العالم الشيعي ينقلها من صحيح البخاري وصحيح مسلم ، وقلت في نفسي « إن وجدت هذا في صحيح البخاري فسيكون لي رأي » .
وسافرت إلى العاصمة ومنها اشتريت صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند الامام أحمد وصحيح الترمذي وموطأ الامام مالك وغيرها من الكتب الاخرى المشهورة ، ولم أنتظر الرجوع إلى البيت فكنت طوال الطريق بين تونس وقفصة وأنا راكب في حافلة النقل العمومية أتصفح كتاب البخاري وأبحث عن رزية يوم الخميس متمنيا أن لا أعثر عليها ، ورغم أنفي وجدتها وقرأتها مرات عديدة فكانت كما نقلها السيد شرف الدين ، وحاولت تكذيب الحادثة برمتها واستبعدت أن يقوم سيدنا عمر بذلك الدور الخطير ولكن أنىّ لي تكذيب ما ورد في صحاحنا وهي صحاح أهل السنة والجماعة التي ألزمنا بها أنفسنا وشهدنا بصحتها ، والشك فيها ، أو تكذيب بعضها يستلزم طرحها لانه هو الآخر يستلزم طرح كل معتقداتنا ، ولو كان العالم الشيعي ينقل من كتبهم ما كنت لاصدق أبدا ، وأما أن ينقل من صحاح أهل السنة التي لا مجال للطعن فيها ، وقد أخذنا على أنفسنا بأنها أصح الكتب بعد كتاب الله فيصبح الامر ملزما وإلا استلزم الشك في هذه الصحاح وعند ذلك لا يبقى معنا من أحكام الاسلام شيء نعتمده ، لان الاحكام التي وردت في كتاب الله جاءت مجملة غير مفصلة ، ولاننا بعيدون عن عصر الرسالة وقد ورثنا أحكام ديننا أبا عن جد عن طريق هذه الصحاح ، فلا يمكن بحال من الاحوال طرح هذه الكتب .
وأخذت على نفسي عهدا وأنا أدخل هذا البحث الطويل العسير ، أن أعتمد الاحاديث الصحيحة التي اتفق عليها السنة والشيعة ، وأن أطرح الاحاديث التي انفرد بها فريق دون الآخر ، بهذه الطريقة المعتدلة ، أكون قد ابتعدت عن المؤثرات العاطفية ، والتعصبات المذهبية والنزعات القومية أو الوطنية ، وفي الوقت نفسه أقطع طريق الشك لاصل إلى حبل اليقين وهو صراط الله المستقيم .

( 89 )

بداية الدراسة المعمقة
الصحابة عند الشيعة والسنة

من أهم الابحاث التي أعتبرها الحجر الاساسي في كل البحوث التي تقود إلى الحقيقة ، هو البحث في حياة الصحابة وشؤونهم وما فعلوه وما اعتقدوه لانهم عماد كل شيء ، وعنهم أخذنا ديننا وبهم نستضيء في الظلمات لمعرفة أحكام الله ، ولقد سبق لعلماء الاسلام - لقناعتهم بذلك - البحث عنهم وعن سيرتهم .
فألفوا في ذلك كتبا عديدة أمثال : اُسد الغابة في تمييز الصحابة ، وكتاب الاصابة في معرفة الصحابة ، وكتاب ميزان الاعتدال وغيرها من الكتب التي تناولت حياة الصحابة بالنقد والتحليل ولكنها من وجهة نظر أهل السنة والجماعة .
وثمة إشكال يتلخص في أن العلماء الاوائل غالبا ما كانوا يكتبون ويؤرخون بالنحو الذي يوافق آراء الحكام من الامويين والعباسيين الذين عرفوا بعدائهم لاهل البيت النبوي ، بل ولكل من يشايعهم ويتبع نهجهم ، ولهذا فليس من الانصاف الاعتماد على أقوالهم دون أقوال غيرهم من علماء المسلمين الذين اضطهدتهم تلك الحكومات وشردتهم وقتلتهم لانهم كانوا أتباع أهل البيت وكانوا مصدر تلك الثورات ضد السلطات الغاشمة والمنحرفة .
والمشكل الاساسي في كل ذلك هو الصحابة ، فهم الذين اختلفوا في أن يكتب لهم رسول الله ذلك الكتاب الذي يعصمهم من الضلالة إلى قيام الساعة واختلافهم هذا هو الذي حرم الامة الاسلامية من هذه الفضيلة ورماها في

( 90 )
الضلالة حتى انقسمت وتفرقت وتنازعت وفشلت وذهبت ريحها .
وهم الذين اختلفوا في الخلافة فتوزعوا بين حزب حاكم وحزب معارض وسبب ذلك تخلف الامة وانقسامها إلى شيعة علي وشيعة معاوية ، وهم الذين اختلفوا في تفسير كتاب الله وأحاديث رسوله فكانت المذاهب والفرق والملل والنحل ، ونشأت من ذلك المدارس الكلامية والفكرية المختلفة وبرزت فلسفات متنوعة أملتها دوافع سياسية محضة تتصل بطموحات الهيمنة على السلطة والحكم ...
فالمسلمون لم ينقسموا ولم يختلفوا في شيء لولا الصحابة وكل خلاف نشأ وينشأ إنما يعود إلى اختلافهم في الصحابة .
فالرب واحد والقرآن واحد والرسول واحد والقبلة واحدة وهم متفقون على ذلك وبدأ الخلاف والاختلاف في الصحابة من اليوم الاول بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله في سقيفة بني ساعدة ، واستمر إلى يوم الناس هذا وسيستمر إلى ما شاء الله .
وقد استنتجت من خلال الحديث مع علماء الشيعة أن الصحابة في نظرهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
فالقسم الاول وهم الصحابة الاخيار الذين عرفوا رسول الله حق المعرفة وبايعوه على الموت وصاحبوه بصدق في القول وبإخلاص في العمل ، ولم ينقلبوا بعده ، بل ثبتوا على العهد وقد امتدحهم الله جل جلاله ، في كتابه العزيز في العديد من المواقع ، وقد أثنى عليهم رسول الله في العديد من المواقع أيضا ، والشيعة يذكرونهم باحترام وتقديس ويترضون عليهم كما يذكرهم أهل السنة باحترام وتقديس أيضا .
والقسم الثاني ، وهم الصحابة الذين اعتنقوا الاسلام واتبعوا رسول الله ولكنهم كانوا في بعض الاوقات لا يمتثلون لاوامره ونواهيه بل يجعلون لآرائهم

( 91 )
مجالا في مقابل النصوص الصريحة والشيعة لا يذكرونهم إلا بأفعالهم بدون احترام ولا تقديس كالصنف الاول .
أما القسم الثالث من الصحابة : فهم المنافقون الذين صحبوا رسول الله للكيد له وقد أظهروا الاسلام وانطوت سرائرهم على الكفر وقد تقربوا ليكيدوا للاسلام والمسلمين عامة وقد أنزل الله فيهم سورة كاملة وذكرهم في العديد من المواقع وتوعدهم بالدرك الاسفل من النار وقد ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وحذر منهم وعلم بعضا من أصحابه أسماءهم وعلاماتهم ، وهؤلاء يتفق الشيعة والسنة على لعنهم والبراءة منهم .
وهناك قسم خاص وإن كانوا من الصحابة فهم يتميزون عليهم بالقرابة وبفضائل خلقية ونفسية وخصوصيات اختصهم الله ورسوله بها لا يلحقهم فيها لاحق ، وهؤلاء هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا(1) وأوجب الصلاة عليهم كما أوجبها على رسوله ، وأوجب لهم سهما من الخمس(2) كما أوجب مودتهم على كل مسلم كأجر للرسالة المحمدية(3) ، فهم أولوا الامر الذين أمر بطاعتهم(4) وهم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويل القرآن ويعلمون المتشابه منه والمحكم(5) ، وهم أهل الذكر الذين قرنهم رسول الله بالقرآن في حديث الثقلين وأوجب التمسك بهما(6) ، وجعلهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق(7) ، والصحابة يعرفون قدر أهل البيت ويعظمونهم ويحترمونهم ، والشيعة يقتدون بهم ويقدمونهم على كل الصحابة ، ولهم في ذلك أدلة من النصوص الصريحة .
____________
( 1 ) سورة الاحزاب : آية 33 .
( 2 ) سورة الانفال : آية 41 .
( 3 ) سورة الشورى : آية 23 .
( 4 ) سورة النساء : آية 59 .
( 5 ) سورة آل عمران : آية 7 .
( 6 ) حديث الثقلين ، ومن مصادره ؛ كنز العمال ج 1 ص 44 ، مسند أحمد ج 5 ص 182.
( 7 ) حديث السفينة ؛ المستدرك للحاكم ج 3 ص 151 تلخيص الذهبي ، الصواعق المحرقة لابن حجر ص 184 و 234 .

( 92 )
أما أهل السنة والجماعة فإنهم مع احترامهم لاهل البيت وتعظيمهم وتفضيلهم إلا أنهم لا يعترفون بهذا التقسيم للصحابة ولا يعدون المنافقين في الصحابة ، بل الصحابة في نظرهم خير الخلق بعد رسول الله .
وإذا كان هناك تقسيم فهو من باب فضيلة السبق للاسلام والبلاء الحسن فيه فيفضلون الخلفاء الراشدين بالدرجة الاولى ثم الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة على ما يروونه .
ولذلك تراهم عندما يصلون على النبي وأهل بيته يلحقون بهم الصحابة أجمعين بدون استثناء .
هذا ما أعرفه من علماء أهل السنة والجماعة ، وذاك ما سمعته من علماء الشيعة في تقسيم الصحابة ، وهذا ما دعاني إلى أن أجعل بحثي يبدأ بهذه الدراسة المعمقة حول الصحابة وعاهدت ربي - إن هداني - أن أتجرد من العاطفة لاكون حياديا ، موضوعيا ولاسمع القول من الطرفين فأتبع أحسنه ، ومرجعي في ذلك :
1 - القاعدة المنطقية السليمة ؛ وهي أن لا أعتمد إلا ما اتفقوا عليه جميعا بشأن التفسير لكتاب الله والصحيح من السنة النبوية الشريفة .
2 - العقل ؛ فهو أكبر نعمة من نعم الله على الانسان ؛ إذ به كرمه وفضله على سائر مخلوقاته ، ألا ترى أن الله سبحانه عندما يحتج على عباده يدعوهم للتعقل بقوله :
« أفلا يعقلون ، أفلا يفقهون ، أفلا يتدبرون ، أفلا يبصرون الخ ... » .
وليكن إسلامي مبدئيا إيمانا بالله وملائكته وكتبه ورسله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الدين عند الله الاسلام ، ولا أعتمد في ذلك على أي واحد من الصحابة مهما كانت قرابته ومهما علت منزلته فأنا لست أمويا ولا عباسيا ولا فاطميا ، ولا سنيا ولا شيعيا وليست لي أي عداوة لابي بكر ولا لعمر ولا لعثمان

( 93 )
ولا لعلي ولا حتى لوحشي قاتل سيدنا الحمزة مادام أنه أسلم والاسلام يجب ما قبله وقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله .
وما دمت أقحمت نفسي في هذا البحث بغية الوصول للحقيقة وما دمت قد تجردت من كل الافكار المسبقة بكل إخلاص فأنا أبدأ هذا البحث على بركة الله في مواقف الصحابة .

1 - الصحابة في صلح الحديبية
مجمل القصة ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج في السنة السادسة للهجرة يريد العمرة مع ألف وأربعمائة من أصحابه فأمرهم أن يضعوا سيوفهم في القرب ، وأحرم هو وأصحابه بذي الحليفة وقلدوا الهدي ليعلم قريشا أنه إنما جاء زائرا معتمرا وليس محاربا ، ولكن قريشا بكبريائها خافت أن يسمع العرب بأن محمدا دخل عنوة إلى مكة وكسر شوكتها ، فبعثوا إليه بوفد يرأسه سهيل بن عمرو بن عبد ود العامري وطلبوا منه أن يرجع في هذه المرة من حيث أتى على أن يتركوا له مكة في العام القادم ثلاثة أيام ، وقد اشترطوا عليه شروطا قاسية قبلها رسول الله لاقتضاء المصلحة التي أوحى بها إليه ربه عزوجل .
ولكن بعض الصحابة لم يعجبهم هذا التصرف من النبي وعارضوه في ذلك معارضة شديدة وجاءه عمر بن الخطاب فقال : ألست نبي الله حقا ؟ قال : بلى ، قال عمر : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قال عمر : فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ، قال عمر : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ قال عمر : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوف به .
ثم أتى عمر بن الخطاب إلى أبي بكر فقال : ياأبابكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى . ثم سأله عمر نفس الاسئلة التي سألها رسول الله ، وأجابه أبو بكر بنفس الاجوبة قائلا له : أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو

( 94 )
ناصره فاستمسك بغرزه ، ولما فرغ رسول الله من كتاب الصلح قال لاصحابه : قوموا فانحروا ثم أحلقوا ، فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يمتثل لامره منهم أحد دخل خباءه ثم خرج فلم يكلم أحدا منهم بشيء حتى نحر بدنة بيده ، ودعا حالقه فحلق رأسه ، فلما رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا(1) . . .
هذه مجمل قصة الصلح في الحديبية وهي من الاحداث المتفق عليها عند الشيعة والسنة وقد ذكرها المؤرخون وأصحاب السير كالطبري وابن الاثير وابن سعد وغيرهم كالبخاري ومسلم .
وأنا لي هنا وقفة ، فلا يمكن لي أن أقرأ مثل هذا ولا أتأثر ولا أعجب من تصرف هؤلاء الصحابة تجاه نبيهم ، وهل يقبل عاقل قول القائلين بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمتثلون أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وينفذونها ، فهذه الحادثة تقطع عليهم ما يرومون ، هل يتصور عاقل بأن هذا التصرف في مواجهة النبي هو أمر هين ؛ أو مقبول ؛ أو معذور ؛ قال تعالى :
( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )(2) .
فهل سلم عمر بن الخطاب هنا ولم يجد في نفسه حرجا مما قضى الرسول صلى الله عليه وآله ؟ ! أم كان في موقفه تردد في ما أمر النبي ؟ وخصوصا في قوله : أولست نبي الله حقا ؟ أو لست كنت تحدثنا ؟ إلى آخره ، وهل سلم بعد ما أجابه رسول الله بتلك الاجوبة المقنعة ؟ كلا لم يقتنع بجوابه وذهب يسأل أبابكر الاسئلة نفسها ، وهل سلم بعد ما أجابه أبو بكرونصحه أن يلزم غرز النبي ، لا أدري إذا كان سلم بذلك ، أو اقتنع بجواب النبي أو بجواب أبي بكر ! ! وإلا لماذا تراه يقول عن
____________
( 1 ) هذه القصة أخرجها أصحاب السير والتواريخ كما أخرجها البخاري في صحيحه من كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد ج 2 - ص 122 - صحيح مسلم في باب صلح الحديبية ج 2 .
( 2 ) سورة النساء : آية 65 .

( 95 )
نفسه : « فعملت لذلك أعمالا . . ولا أدري سبب تخلف البقية الباقية من الحاضرين بعد ذلك إذ قال لهم رسول الله : قوموا فانحروا ثم أحلقوا ، فلم يستمع إلى أمره أحد منهم حتى كررها عليهم ثلاث مرات بدون جدوى .
سبحان الله ! أنا لا أكاد أصدق ما أقرأ ، وهل يصل الامر بالصحابة إلى هذا الحد في التعامل مع أمر الرسول ، ولو كانت هذه القصة مروية من طريق الشيعة وحدهم لعددت ما قالوا افتراء على الصحابة الكرام ، ولكن القصة بلغت من الصحة والشهرة أن تناقلها كل المحدثين من أهل السنة والجماعة أيضا ، وبما أنني ألزمت نفسي توثيق ما اتفقوا عليه ، فلا أراني إلا مسلما ومتحيرا : ماذا عساني أن أقول ؟ وبم أعتذر عن هؤلاء الصحابة الذين قضوا مع رسول الله قرابة عشرين عاما من البعثة إلى يوم الحديبية ، وهم يشاهدون المعجزات وأنوار النبوة ، والقرآن يعلمهم ليلا نهارا كيف يتأدبون مع حضرة الرسول وكيف يكلموه ، حتى هددهم الله بإحباط أعمالهم إن رفعوا أصواتهم فوق صوته .
ويدفعني إلى الاحتمال بأن عمر بن الخطاب هو الذي أثار بقية الحاضرين ودفعهم إلى التردد والتخلف عن أمر الرسول - زيادة على اعترافه بأنه عمل لذلك أعمالا لم يشأ ذكرها - ما يردده هو في موارد أخرى قائلا : ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق مخافة كلامي الذي تكلمت به .. إلى آخر ما هو مأثور عنه في هذه القضية(1) ...
مما يشعرنا بأن عمر نفسه كان يدرك بعد الموقف الذي وقفه ذلك اليوم إنها قصة عجيبة وغريبة ولكنها حقيقية . .

2 - الصحابة ورزية يوم الخميس
ومجمل القصة أن الصحابة كانوا مجتمعين في بيت رسول الله قبل وفاته بثلاثة أيام ، فأمرهم أن يحضروا له الكتف والدواة ليكتب لهم كتابا يعصمهم من
____________
( 1 ) السيرة الحلبية باب صلح الحديبية ج 2 - ص 706 .

( 96 )
الضلالة ، ولكن الصحابة اختلفوا ومنهم من عصى أمره واتهمه بالهجر ، فغضب رسول الله وأخرجهم من بيته دون أن يكتب لهم شيئا ، وإليك شيئا من التفصيل :
قال ابن عباس : يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله وجعه ، فقال : هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، فقال عمر إن النبي قد غلبه الوجع ، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت واختصموا ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتابا لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي ، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله ، قوموا عني ، فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم(1) ولغطهم . هذه الحادثة صحيحة لا شك فيها ، فقد نقلها علماء الشيعة ومحدثوهم في كتبهم ، كما نقلها علماء السنة ومحدثوهم ومؤرخوهم ، وهي ملزمة لي على ما ألزمت به نفسي ومن هنا أقف حائرا في تفسير الموقف الذي وقفه عمر بن الخطاب من أمر رسول الله ، وأي أمر هو ؟ أمر « عاصم من الضلالة لهذه الامة ، ولا شك أن هذا الكتاب كان فيه شيء جديد للمسلمين سوف يقطع عليهم كل شك » .
ولنترك قول الشيعة : « بأن رسول أراد أن يكتب إسم علي خليفة له ، وتفطن عمر لذلك فمنعه » .
فلعلهم لا يقنعوننا بهذا الزعم الذي لا يرضينا مبدئيا ، ولكن هل نجد تفسيرا معقولا لهذه الحادثة المؤلمة التي أغضبت الرسول حتى طردهم وجعلت ابن عباس يبكي حتى يبل دمعه الحصى ويسميها أكبر رزية ؛ أهل السنة يقولون بأن عمر أحس بشدة مرض النبي فأشفق عليه وأراد أن يريحه ، وهذا التعليل لا يقبله
____________
( 1 ) صحيح البخاري ج 3 باب قول المريض : قوموا عني .
صحيح مسلم ج 5 ص 75 في آخر كتاب الوصية .
مسند الامام أحمد ج 1 ص 355 وج 5 ص 116 .
تاريخ الطبري ج 3 ص 193 - تاريخ ابن الاثير ج 2 - ص 320 .

( 97 )
بسطاء العقول فضلا عن العلماء ، وقد حاولت مرارا وتكرارا التماس بعض الاعذار لعمر ولكن واقع الحادثة يأبى علي ذلك ، وحتى لو أبدلت كلمة يهجر « والعياذ بالله » بلفظة « غلبه الوجع » فسوف لن نجد مبررا لقول عمر : « عندكم القرآن » « وحسبنا كتاب الله » ، أو كان هو أعلم بالقرآن من رسول الله الذي أنزل عليه ، أم أن رسول الله لا يعي ما يقول « حاشاه » أم أنه أراد بأمره ذلك أن يبعث فيهم الاختلاف والفرقة « أستغفر الله » .
ثم لو كان تعليل أهل السنة صحيحا ، فلم يكن ذلك ليخفى على الرسول ولا يجهل حسن نية عمر ، ولشكره رسول الله على ذلك وقربه بدلا من أن يغضب عليه ويقول أخرجوا عني .
وهل لي أن أتسأل لماذا امتثلوا أمره عندما طردهم من الحجرة النبوية ، ولم يقولوا بأنه يهجر ؟ ألانهم نجحوا بمخططهم في منع الرسول من الكتابة ، فلا داعي بعد ذلك لبقائهم ، والدليل أنهم أكثروا اللغط والاختلاف بحضرته (ص) ، وانقسموا إلى حزبين منهم من يقول : قربوا إلى رسول الله يكتب لكم ذلك الكتاب ومنهم من يقول ما قال عمر أي إنه « يهجر » .
والامر لم يعد بتلك البساطة يتعلق بشخص عمر وحده ولو كان كذلك لاسكته رسول الله وأقنعه بأنه لا ينطق عن الهوى ولا يمكن أن يغلب عليه الوجع في هداية الامة وعدم ضلالتها ولكن الامر استفحل واستشرى ووجد له أنصارا كأنهم متفقون مسبقا ، ولذلك أكثروا اللغط والاختلاف ونسوا أو تناسوا قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )(1) .
وفي هذه الحادثة تعدوا حدود رفع الاصوات والجهر بالقول إلى رميه صلى الله عليه وآله بالهجر والهذيان « والعياذ بالله » ثم أكثروا اللغط والاختلاف وصارت معركة كلامية بحضرته .
____________
( 1 ) سورة الحجرات : آية 2 .

( 98 )
وأكاد أعتقد بأن الاكثرية الساحقة كانت على قول عمر ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وآله عدم الجدوى في كتابة الكتاب لانه علم بأنهم لم يحترموه ولم يمتثلوا لامر الله فيه في عدم رفع أصواتهم بحضرته ، وإذا كانوا لامر الله عاصين فلن يكونوا لامر رسوله طائعين .
واقتضت حكمة الرسول بأن لا يكتب لهم ذلك الكتاب لانه طعن فيه في حياته ، فكيف يعمل بما فيه بعد وفاته ، وسيقول الطاعنون : بأنه هجر من القول ولربما سيشككون في بعض الاحكام التي عقدها رسول الله في مرض موته .
إذ أن اعتقادهم بهجره ثابت .
أستغفر الله ، وأتوب إليه من هذا القول في حضرة الرسول الاكرم ، وكيف لي أن أقنع نفسي وضميري الحر بأن عمر بن الخطاب كان عفويا في حين أن أصحابه ومن حضروا محضره بكوا لما حصل حتى بل دمعهم الحصى وسموها رزية المسلمين .
ولهذا فقد خلصت إلى أن أرفض كل التعليلات التي قدمت لتبرير ذلك ، ولقد حاولت أن أنكر هذه الحادثة وأكذبها لاستريح من مأساتها ، ولكن كتب الصحاح نقلتها وأثبتتها وصححتها ولم تحسن تبريرها .
وأكاد أميل إلى رأي الشيعة في تفسير هذا الحدث لانه تعليل منطقي وله قرائن عديدة .
وإني لا زلت أذكر إجابة السيد محمد باقر الصدر عندما سألته : كيف فهم سيدنا عمر من بين الصحابة ما يريد الرسول كتابته وهو استخلاف علي - على حد زعمكم - ، فهذا ذكاء منه .
قال السيد الصدر : لم يكن عمر وحده فهم مقصد الرسول ، ولكن أكثر الحاضرين فهموا ما فهمه عمر ، لانه سبق لرسول الله صلى الله عليه وآله أن قال مثل هذا إذ قال لهم إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، وفي مرضه قال لهم : هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده

( 99 )
أبدا ، ففهم الحاضرون ومن بينهم عمر أن رسول الله يريد أن يؤكد ما ذكره في غدير خم كتابيا ، وهو التمسك بكتاب الله وعترته ، وسيد العترة هو علي ، فكأنه صلى الله عليه وآله أراد أن يقول : عليكم بالقرآن وعلي ، وقد قال مثل ذلك في مناسبات أخرى كما ذكرالمحدثون .
وكان أغلبية قريش لا يرضون بعلي لانه أصغر القوم ولانه حطم كبرياءهم وهشم أنوفهم وقتل أبطالهم ، ولكنهم لا يجرؤون على رسول الله مثل عمر فقد كان جريئا على النحو الذي حصل في صلح الحديبية وفي المعارضة الشديدة للنبي عندما صلى على عبدالله بن اُبي ، المنافق ، وفي عدة مواقف أخرى سجلها التاريخ ، وهذا الموقف منها ، وأنت ترى أن المعارضة لكتابة الكتاب في مرض النبي شجعت بعض الآخرين من الحاضرين على الجرأة ومن ثم الاكثار من اللغط في حضرة الرسول صلى الله عليه وآله .
إن هذه المقولة : جاءت ردا مطابقا تماما لمقصود الحديث ، فمقولة : عندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله مخالفة لمحتوى الحديث الذي يأمرهم بالتمسك بكتاب الله وبالعترة معا ، فكأن المقصود هو : حسبنا كتاب الله فهو يكفينا ، ولا حاجة لنا بالعترة .
وليس هناك تفسير معقول غير هذا ، - بالنسبة إلى هذه الحادثة - اللهم إلا إذا كان المراد هو القول بإطاعة الله دون إطاعة رسوله ، وهذا أيضا باطل وغير معقول . . .
وأنا إذا طرحت التعصب الاعمى والعاطفة الجامحة وحكمت العقل السليم والفكر الحر لملت إلى هذا التحليل وذلك أهون من اتهام عمر بأنه أول من رفض السنة النبوية بقوله : « حسبنا كتاب الله » .
وإذا كان بعض الحكام قد رفض السنة النبوية بدعوى أنها متناقضة ، فإنه اتبع في ذلك سابقة تاريخية في حياة المسلمين .
وإني لاعجب لمن يقرأ هذه الحادثة ويمر بها وكأن شيئا لم يكن ، مع أنها من أكبر الرزايا كما سماها ابن عباس ، وعجبي أكبر من الذين يحاولون جهدهم

( 100 )
الحفاظ على كرامة صحابي وتصحيح خطئه ولو كان ذلك على حساب كرامة رسول الله وعلى حساب الاسلام ومبادئه .
ولماذا نهرب من الحقيقة ونحاول طمسها عندما لا تتماشى مع أهوائنا ، لماذا لا نعترف بأن الصحابة بشر مثلنا ، لهم أهواء وميول ويخطئون ويصيبون .
ولا يزول عجبي إلا عندما أقرأ كتاب الله وهو يروي لنا قصص الانبياء عليهم الصلاة والسلام ، وما لاقوه من شعوبهم في المعاندة رغم ما يشاهدونه من معجزات . . ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) .
وهكذا أصبحت أدرك خلفية موقف الشيعة من بعض الصحابة الذين يحملونهم مسؤولية الكثير من المآسي التي وقعت في حياة المسلمين منذ رزية يوم الخميس التي حرمت الامة من كتاب الهداية الذي أراد الرسول صلى الله عليه وآله أن يكتبه لهم.

3 - الصحابة في سرية أسامة
مجمل هذه القصة : أنه صلى الله عليه وآله ، جهز جيشا لغزو الروم قبل وفاته بيومين ، وأمر على هذه السرية أسامة بن زيد بن حارثة وعمره ثمانية عشر عاما ، وقد عبأ صلى الله عليه وآله في هذه السرية وجوه المهاجرين والانصار كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وغيرهم من كبار الصحابة المشهورين فطعن قوم منهم في تأمير أسامة ، وقالوا : كيف يؤمر علينا شاب لا نبات بعارضيه ، وقد طعنوا من قبل في تأمير أبيه ، وقد قالوا في ذلك وأكثروا النقد ، حتى غضب صلى الله عليه وآله غضبا شديدا مما سمع من طعنهم وانتقادهم ، فخرج صلى الله عليه وآله معصب الرأس محموما ، يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الارض بأبي هو وأمي ، من شدة ما به من لغوب ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
« أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة ، ولئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أبيه من قبله ، وأيم الله إنه كان خليقا

( 101 )
بالامارة ، وإن ابنه من بعده لخليق بها . . »(1) .
ثم جعل صلى الله عليه وآله يحضهم على التعجيل وجعل يقول : جهزوا جيش أسامة ، أنفذوا جيش أسامة أرسلوا بعث أسامة ، يكرر ذلك على مسامعهم وهم متثاقلون وعسكروا بالجرف وما كادوا يفعلون .
إن مثل ذلك يدفعني إلى أن أتسأل : ما هذه الجرأة على الله ورسوله ؟ ! ، وما هذا العقوق في حق الرسول الاكرم الذي هو حريص عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم ؟ لم أكن أتصور كما لا يمكن لاحد أن يتصور تفسيرا مقبولا لهذا العصيان ، وهذه الجرأة .
وكالعادة ، عند قراءة مثل هذه الاحداث التي تمس كرامة الصحابة من قريب أو بعيد أحاول تكذيب مثل هذه القضايا وتجاهلها ، ولكن لا يمكن تكذيب ما أجمع عليه المؤرخون والمحدثون من علماء السنة والشيعة ، وتجاهل ذلك .
وقد عاهدت ربي أن أكون منصفا ، فلا أتعصب لمذهبي ولا أقيم وزنا لغير الحق ، والحق هنا مر كما يقال ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : « قل الحق ولو كان على نفسك وقل الحق ولو كان مرا . . . » والحق في هذه القضية : هو أن هؤلاء الصحابة الذين طعنوا في تأمير أسامة قد خالفوا أمر ربهم وخالفوا الصريح من النصوص التي لا تقبل الشك ولا تقبل التأويل ، وليس لهم عذر في ذلك ، إلا ما يلتمسه البعض من أعذار باردة حفاظا على كرامة الصحابة و « السلف الصالح » والعاقل الحر لا يقبل بحال من الاحوال هذه التمحلات . اللهمّ إلا إذا كان من الذين لا يفقهون حديثا ، ولا يعقلون ، أو من الذين أعمت العصبية أعينهم فلم يعودوا يفرقون بين الفرض الواجب طاعته والنهي الواجب تركه ، ولقد فكرت مليا عساني أجد عذرا لهؤلاء مقبولا ، فلم يسعفني تفكيري بطائل ، وقرأت اعتذار أهل السنة على هؤلاء بأنهم كانوا مشايخ قريش وكبراءها ، ولهم
____________
( 1 ) طبقات ابن سعد ج 2 - ص 190 - تاريخ ابن الاثير ج 2 - ص 317.
السيرة الحلبية ج 3 - ص 207 - تاريخ الطبري ج 3 - ص 226 .

( 102 )
الاسبقية في الاسلام بينما أسامة كان حدثا ولم يشارك في المعارك المصيرية لعزة الاسلام ، كمعركة بدر وأحد وحنين ، ولم تكن له سابقة بل كان صغير السن عندما ولاه رسول الله إمارة السرية ، وطبيعة النفوس البشرية تأبى بجبلتها إذا كانت بين كهول وشيوخ أن تنقاد إلى الاحداث وتنفر بطبعها من النزول على حكم الشبان ولذلك طعنوا في تأميره وأرادوا منه صلى الله عليه وآله أن يستبدله بأحد من وجوه الصحابة وكبرائهم .
إنه اعتذار لا يستند إلى دليل عقلي ولا شرعي ولا يمكن لاي مسلم قرأ القرآن وعرف أحكامه إلا أن يرفض مثل هذا ، لان الله عزوجل يقول :
( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )(1) ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )(2) .
فأي عذر بعد هذه النصوص الصريحة يقبله العاقلون وماذا عساني أن أقول في قوم أغضبوا رسول الله وهم يعلمون أن غضب الله في غضبه ، وذلك بعد أن رموه بالهجر وقالوا بحضرته ما قالوا وأكثروا اللغط والاختلاف وهو مريض ، بأبي هو وأمي ، حتى أخرجهم من حجرته ، أو لم يكفهم كل هذا ، وبدلا من أن يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله ويستغفروه مما فعلوا ويطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم كما علمهم القرآن ، عوضا عن ذلك فقد زادوا في الطين بلة كما يقول المثل الشعبي عندنا ، فطعنوا في تأميره أسامة بعد يومين من رميه بالهجر والجرح لما يندمل ، حتى أجبروه أن يخرج صلى الله عليه وآله بتلك الحالة التي وصفها المؤرخون ، لا يقدر على المشي من شدة المرض وهو يتهادى بين رجلين ، ثم يقسم بالله بأن أسامة خليق بالامارة ، ويزيدنا الرسول بأنهم هم أنفسهم الذين طعنوا في تأميره زيد بن حارثة من قبل ليعلمنا أن هؤلاء لهم معه مواقف سابقة متعددة وسوابق شاهدة على أنهم لم يكونوا من الذين لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى ويسلمون تسليما ،
____________
( 1 ) سورة الحشر : آية 7 .
( 2 ) سورة الاحزاب : آية 36 .