لقاء مع السيد محمد باقر الصدر

اتجهت بصحبة السيد أبو شبر إلى بيت السيد محمد باقر الصدر وفي الطريق كان يلاطفني ويعطيني بسطة عن العلماء المشهورين وعن التقليد وغير ذلك ، ودخلنا على السيد محمد باقر الصدر في بيته وكان مليئا بطلبة العلوم وأغلبهم من الشبان المعممين وقام السيد يسلم علينا ، وقدموني إليه فرحب بي كثيرا وأجلسني بجانبه وأخذ يسألني عن تونس والجزائر وعن بعض العلماء المشهورين أمثال الخضر حسين والطاهر بن عاشور وغيرهم ، وأنست بحديثه ورغم الهيبة التي تعلوه والاحترام الذي يحوطه به جلساؤه ، وجدت نفسي غير محرج وكأني أعرفه من قبل واستفدت من تلك الجلسة إذ كنت أسمع أسئلة الطلبة وأجوبة السيد عليها ، وعرفت وقتها قيمة تقليد العلماء الاحياء الذين يجيبون عن كل الاشكالات مباشرة وبكل وضوح ، وتيقنت أيضا من أن الشيعة مسلمون يعبدون الله وحده ويؤمنون برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ كان بعض الشك يراودني والشيطان يوسوس لي بأن ما شاهدته قبل هو تمثيل ، وربما يكون ما يسمونه بالتقية ، أي أنهم يظهرون ما لا يعتقدون ، ولكن سرعان ما يزول الشك وتضمحل تلك الوساوس إذ لا يمكن بأي حال من الاحوال أن يتفق كل من رأيتهم وسمعتهم وهم مئات على هذا التمثيل ثم لماذا هذا التمثيل ؟ ومن هو أنا ، وما يهمهم من أمري حتى يستعملوا معي هذه التقية ثم هذه كتبهم القديمة التي كتبت منذ قرون والحديثة التي طبعت منذ شهور وكلها توحد الله وتثني على رسوله

( 62 )
محمد كما قرأت ذلك في مقدماتها ، وها أنا الآن في بيت السيد محمد باقر الصدر المرجع المشهور في العراق وفي خارج العراق وكلما ذكر اسم محمد صاح الجميع في صوت واحد : « اللهم صل على محمد وآل محمد » .
وجاء وقت الصلاة وخرجنا إلى المسجد وكان بجوار البيت وصلى بنا السيد محمد باقر الصدر صلاة الظهر والعصر ، وأحسست بأني أعيش وسط الصحابة الكرام فقد تخلل الصلاتين دعا رهيب من أحد المصلين ، وكان له صوت شجي ساحر وبعدما أنهى الدعاء صاح الجميع « اللهم صل على محمد وآل محمد » وكان الدعاء كله ثناء وتمجيدا على الله جل جلاله ثم على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وجلس السيد في المحراب بعد الصلاة .
وأخذ بعضهم يسلمون عليه ويسألونه سرا وعلانية وكان يجيب سرا عن بعض الاسئلة التي فهمت أنها تتطلب الكتمان لانها تتعلق بشؤون خاصة ، وكان السائل إذا حصل على الجواب يقبل يده وينصرف ، هنيئا لهم بهذا العالم الجليل الذي يحل مشاكلهم ويعيش همومهم .
رجعنا بصحبة السيد الذي أولاني من الرعاية والعناية وحسن الضيافة ما أنساني أهلي وعشيرتي وأحسست بأني لو بقيت معه شهرا واحدا لتشيعت لحسن أخلاقه وتواضعه وكرم معاملته ، فلم أنظر إليه إلا وابتسم في وجهي وابتدرني بالكلام ، وسألني هل ينقصني شيء ، فكنت لا أغادره طيلة الايام الاربعة إلا للنوم ، رغم كثرة زواره والعلماء الوافدين عليه من كل الاقطار ، فقد رأيت السعوديين هناك ولم أكن اتصور بأن في الحجاز شيعة ، وكذلك علماء من البحرين ومن قطر ومن الامارات ومن لبنان وسوريا وإيران وأفغانستان ومن تركيا ومن أفريقيا السوداء وكان السيد يتكلم معهم ويقضي حوائجهم ولا يخرجون من عنده إلا وهم فرحون مسرورون ، ولا يفوتني أن أذكر هنا قضية حضرتها وأعجبت في كيفية فصلها ، وأذكرها للتاريخ لما لها من أهمية بالغة حتى يعرف المسلمون ماذا خسروا بتركهم حكم الله .
جاء إلى السيد محمد باقر الصدر أربعة رجال أظنهم عراقيين عرفت ذلك

( 63 )
من لهجتهم ، كان أحدهم ورث مسكنا من جده الذي توفي منذ سنوات وباع ذلك المسكن إلى شخص ثان كان هو الآخر حاضرا ، وبعد سنة من تاريخ البيع جاء أخوان ، وأثبتا أنهما وارثان شرعيان للميت ، وجلس أربعتهم أمام السيد وأخرج كل واحد منهم أوراقه وما عنده من حجج وبعد ما قرأ السيد كل أوراقهم وتحدث معهم بضع دقائق حكم بينهم بالعدل ، فأعطى الشاري حقه في التصرف بالمسكن وطلب من البائع أن يدفع للاخوين نصيبهما من الثمن المقبوض ، وقام الجميع يقبلون يده ، ويتعانقون ، ودهشت لهذا ولم أصدق ، وسألت أبا شبر ، هل انتهت القضية ؟ قال : « خلاص كل اخذ حقه » ، سبحان الله ! بهذه السهولة ، وبهذا الوقت الوجيز ، بضع دقائق فقط كافية لحسم النزاع ؟ إن مثل هذه القضية في بلادنا تستغرق عشر سنوات على أقل تقدير ويموت بعضهم ، ويواصل أولاده بعده تتبع القضية ويصرفون رسوم المحكمة والمحامين ما يكلفهم في أغلب الاحيان ثمن المسكن نفسه ، ومن المحكمة الابتدائية إلى محكمة الاستئناف ثم إلى التعقيب وفي النهاية يكون الجميع غير راضين بعد ما يكونون قد انهكوا بالتعب والمصاريف والرشوة ، والعداوة والبغضاء بين عشائرهم وذويهم ، أجابني أبوشبر ، وعندنا أيضا نفس الشيء أو أكثر فقلت : كيف ؟ قال : إذا رفع الناس شكواهم إلى المحاكم الحكومية ، فيكون مثل ما حكيت أما إذا كانوا يقلدون المرجع الديني ويلتزمون بالاحكام الاسلامية ، فلا يرفعون قضاياهم إلا إليه فيفصلها في بضع دقائق كما رأيت ، ومن أحسن من الله حكما لقوم يعقلون ؟ والسيد الصدر لم يأخذ منهم فلسا واحدا ، ولو ذهبوا إلى المحاكم الرسمية لتعرت رؤوسهم .
ضحكت لهذا التعبير الذي هو سار عندنا أيضا وقلت : سبحان الله ! أنا لا زلت مكذبا ما رأيت ، ولولا ما شاهدته بعيني ما كنت لاصدق أبدا ، فقال أبو شبر : لا تكذب ياأخي فهذه بسيطة بالنسبة إلى غيرها من القضايا التي هي أشد تعقيدا وفيها دماء ، ومع ذلك يحكم فيها المراجع ويفصلونها في سويعات ، فقلت متعجبا : إذاً عندكم في العراق حكومتان ، حكومة الدولة وحكومة رجال الدين ، فقال : كلا عندنا حكومة الدولة فقط ، ولكن المسلمين من الشيعة الذين

( 64 )
يقلدون مراجع الدين ، لا علاقة لهم بالحكومة ، لانها ليست حكومة إسلامية فهم خاضعون لها بحكم المواطئية والضرائب والحقوق المدنية والاحوال الشخصية ، فلو تخاصم مسلم ملتزم مع أحد المسلمين غير الملتزمين فسوف يضطر حتما لرفع قضيته إلى محاكم الدولة ، لان هذا الاخير لا يرضى بتحكيم رجال الدين - أما إذا كان المتخاصمان متلزمين فلا أشكال هناك ، وما يحكم به المرجع الديني نافذ على الجميع .
وعلى هذا الاساس تحل القضايا التي يحكم فيها المرجع في يومها بينما تظل القضايا الاخرى شهورا بل أعواما .
إنها حادثة حركت في نفسي شعور الرضى بأحكام الله سبحانه وتعالى وفهمت معنى قوله تعالى في كتابه المجيد:
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ، ... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون . . )(1) صدق الله العظيم .
كما حركت في نفسي شعور النقمة والثورة على هؤلاء الظلمة الذين يبدلون أحكام الله العادلة بأحكام وضعية بشرية جائرة ، ولا يكفيهم كل ذلك بل ينتقدون بكل وقاحة وسخرية الاحكام الآلهية ، ويقولون بأنها بربرية ووحشية لانها تقيم الحدود فتقطع يد السارق وترجم الزاني ، وتقتل القاتل ، فمن أين جاءتنا هذه النظريات الغريبة عنا وعن تراثنا ، لا شك إنها من الغرب ومن أعداء الاسلام الذين يدركون أن تطبيق أحكام الله يعني القضاء عليهم نهائيا ، لانهم سراق ، خونة ، زناة ، مجرمون وقتلة .
ولو طبقت أحكام الله عليهم لاسترحنا من هؤلاء جميعا وقد دارت بيني وبين السيد محمد باقر الصدر في تلك الايام حوارات عديدة وكنت أسأله عن كل
____________
( 1 ) سورة المائدة : الآيات 44 - 45 - 47 .

( 65 )
صغيرة وكبيرة من خلال ما عرفته من الاصدقاء الذين حدثوني عن كثير من عقائدهم وما يقولونه في الصحابة رضي الله عنهم وما يعتقدونه في الائمة الاثني عشر علي وبنيه ، وغير ذلك من الاشياء التي نخالفهم فيها .
سألت السيد الصدر عن الامام علي ، ولماذا يشهدون له في الآذان بأنه ولي الله ؟ أجاب قائلا : إن أمير المؤمنين عليا سلام الله عليه وهو عبد من عبيد الله الذين اصطفاهم الله وشرفهم ليواصلوا حمل أعباء الرسالة بعد أنبيائه وهؤلاء هم أوصياء الانبياء ، فلكل نبي وصي وعلي بن أبي طالب هو وصيّ محمد ، ونحن نفضله على سائر الصحابة بما فضله الله ورسوله ولنا في ذلك أدلة عقلية ونقلية من القرآن والسنة وهذه الادلة لا يمكن أن يتطرق إليها الشك لانها متواترة وصحيحة من طرقنا وحتى من طرق أهل السنة والجماعة ، وقد ألف في ذلك علماؤنا العديد من الكتب ، ولما كان الحكم الاموي يقوم على طمس هذه الحقيقة ومحاربة أمير المؤمنين علي وأبنائه وقتلهم ، ووصل بهم الامر إلى سبه ولعنه على منابر المسلمين وحمل الناس على ذلك بالقهر والقوة ، فكان شيعته وأتباعه رضي الله عنهم يشهدون أنه ولي الله ، ولا يمكن للمسلم أن يسب ولي الله ، وذلك تحديا منهم للسلطة الغاشمة حتى تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وحتى تكون حافزا تاريخيا لكل المسلمين عبر الاجيال فيعرفون حقيقة علي وباطل أعدائه .
ودأب فقهاؤنا على الشهادة لعلي بالولاية في الاذان والاقامة استحبابا ، لا بنية أنها جزء من الآذان أو الاقامة فإذا نوى المؤذن أو المقيم أنها جزء بطل أذانه وإقامته .
والمستحبات في العبادات والمعاملات لا تحصى لكثرتها والمسلم يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها ، وقد ورد على سبيل المثال أنه يذكر استحبابا بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، بأن يقول المسلم ، وأشهد أن الجنة حق والنار حق وأن الله يبعث من في القبور .
قلت : إن علماءنا علمونا : أن أفضل الخلفاء على التحقيق سيدنا أبوبكر الصديق ، ثم سيدنا عمر الفاروق ثم سيدنا عثمان ثم سيدنا علي رضي الله تعالى

( 66 )
عنهم أجمعين ؟ سكت السيد قليلا ، ثم أجابني .
لهم أن يقولوا ما يشاؤون ، ولكن هيهات أن يثبتوا ذلك بالادلة الشرعية ، ثم إن هذا القول يخالف صريح ما ورد في كتبهم الصحيحة المعتبرة ، فقد جاء فيها : أن أفضل الناس أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ولا وجود لعلي بل جعلوه من سوقة الناس وإنما ذكره المتأخرون استحبابا لذكر الخلفاء الراشدين .
سألته بعد ذلك عن التربة التي يسجدون عليها والتي يسمونها « بالتربة الحسينية » أجاب قائلا :
يجب أن يعرف قبل كل شيء أننا نسجد على التراب ، ولا نسجد للتراب ، كما يتوهم البعض الذين يشهرون بالشيعة ، فالسجود هو لله سبحانه وتعالى وحده ، والثابت عندنا وعند أهل السنة أيضا أن أفضل السجود على الارض أو ما أنبتت الارض من غير المأكول ، ولا يصح السجود على غير ذلك ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يفترش التراب وقد اتخذ له خمرة من التراب والقش يسجد عليها ، وعلم أصحابه رضوان الله عليهم فكانوا يسجدون على الارض ، وعلى الحصى ، ونهاهم أن يسجد أحدهم على طرف ثوبه ، وهذا من المعلومات بالضرورة عندنا .
وقد اتخذ الامام زين العابدين وسيد الساجدين على بن الحسين ( عليهما السلام ) تربة من قبر أبيه أبي عبدالله باعتبارها تربة زكية طاهرة سالت عليها دماء سيد الشهداء ، واستمر على ذلك شيعته إلى يوم الناس هذا ، فنحن لا نقول بأن السجود لا يصح إلا عليها ، بل نقول بأن السجود يصح على أي تربة أو حجرة طاهرة كما يصح على الحصير والسجاد المصنوع من سعف النخيل وما شابه ذلك .
قلت - على ذكر سيدنا الحسين رضي الله عنه - لماذا يبكي الشيعة ويلطمون ويضربون أنفسهم حتى تسيل الدماء وهذا محرم في الاسلام ، فقد قال صلى الله عليه وآله : « ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية » .
أجاب السيد قائلا : الحديث صحيح لا شك فيه ولكنه لا ينطبق على مأتم

( 67 )
أبي عبدالله ، فالذي ينادي بثأر الحسين ويمشي على درب الحسين دعوته ليست دعوى جاهلية ، ثم إن الشيعة بشر فيهم العالم وفيهم الجاهل ولديهم عواطف ، فاذا كانت عواطفهم تطغى عليهم في ذكرى استشهاد أبي عبدالله وما جرى عليه وعلى أهله وأصحابه من قتل وهتك وسبي ، فهم مأجورون لان نواياهم كلها في سبيل الله ، والله سبحانه وتعالى يعطي العباد على قدر نواياهم ، وقد قرأت منذ أسبوع التقارير الرسمية للحكومة المصرية بمناسبة موت جمال عبد الناصر ، تقول هذه التقارير الرسمية بأنه سجل أكثر من ثماني حالات انتحارية قتل أصحابها أنفسهم عند سماع النبأ فمنهم من رمى نفسه من أعلى العمارة ومنهم من ألقى بنفسه تحت القطار وغير ذلك ، وأما المجروحون والمصابون فكثيرون ، وهذه أمثلة أذكرها للعواطف التي تطغى على أصحابها وإذا كان الناس وهم مسلمون بلا شك يقتلون أنفسهم من أجل موت جمال عبد الناصر وقد مات موتا طبيعيا ، فليس من حقنا - بناء على مثل هذا - أن نحكم على أهل السنة بأنهم مخطئون .
وليس لاخواننا من أهل السنة أن يحكموا على إخوانهم من الشيعة بأنهم مخطئون في بكائهم على سيد الشهداء ، وقد عاشوا محنة الحسين وما زالوا يعيشونها حتى اليوم ، وقد بكى رسول الله نفسه على ابنه الحسين وبكى جبريل لبكائه .
- قلت ولماذا يزخرف الشيعة قبور أوليائهم بالذهب والفضة وهو محرم في الاسلام ؟ .
أجاب السيد الصدر : ليس ذلك منحصرا بالشيعة ، ولا هو حرام فها هي مساجد إخواننا من أهل السنة سواء في العراق أو في مصر أو في تركيا أو غيرها من البلاد الاسلامية مزخرفة بالذهب والفضة وكذلك مسجد رسول الله في المدينة المنورة وبيت الله الحرام في مكة المكرمة الذي يكسى في كل عام بحلة ذهبية جديدة يصرف فيها الملايين ، فليس ذلك منحصرا بالشيعة .
قلت : إن علماء السعودية يقولون : إن التمسح بالقبور ودعوة الصالحين والتبرك بهم ، شرك بالله ، فما هو رأيكم ؟ أجاب السيد محمد باقر الصدر :
اذا كان التمسح بالقبور ودعوة أصحابها بنية أنهم يضرون وينفعون ، فهذا

( 68 )
شرك ، لا شك فيه : وإنما المسلمون موحدون ويعلمون أن الله وحده هو الضار والنافع وإنما يدعون الاولياء والائمة ( عليهم السلام ) ليكونوا وسيلتهم إليه سبحانه وهذا ليس بشرك ، والمسلمون سنة وشيعة متفقون على ذلك من زمن الرسول إلى هذا اليوم ، عدا الوهابية وهم علماء السعودية الذين ذكرت والذين خالفوا إجماع المسلمين بمذهبهم الجديد الذي ظهر في هذا القرن ، وقد فتنوا المسلمين بهذا الاعتقاد وكفروهم وأباحوا دماءهم ، فهم يضربون الشيوخ من حجاج بيت الله الحرام لمجرد قول أحدهم : السلام عليك يارسول الله ، ولا يتركون أحدا يتمسح على ضريحه الطاهر ، وقد كان لهم مع علمائنا مناظرات ، ولكنهم أصروا على العناد واستكبروا استكبارا .
فإن السيد شرف الدين من علماء الشيعة لما حج بيت الله الحرام في زمن عبدالعزيز آل سعود ، كان من جملة العلماء المدعوين إلى قصر الملك لتهنئته بعيد الاضحى كما جرت العادة هناك ولما وصل الدور إليه وصافح الملك قدم إليه هدية وكانت مصحفا ملفوفا في جلد ، فأخذه الملك وقبله ووضعه على جبهته تعظيما له وتشريفا ، فقال له السيد شرف الدين عندئذ : أيها الملك لماذا تقبل الجلد وتعظمه وهو جلد ماعز ؟ أجاب الملك ، أنا قصدت القرآن الكريم الذي بداخله ولم أقصد تعظيم الجلد ! فقال السيد شرف الدين عند ذلك : أحسنت أيها الملك ، فكذلك نفعل نحن عندما نقبل شباك الحجرة النبوية أو بابها فنحن نعلم أنه حديد لا يضر ولا ينفع ، ولكننا نقصد ما وراء الحديد وما وراء الاخشاب نحن نقصد بذلك تعظيم رسول الله صلى الله عليه وآله ، كما قصدت أنت القرآن بتقبيلك جلد الماعز الذي يغلفه .
فكبر الحاضرون إعجابا له وقالوا : صدقت ، واضطر الملك وقتها إلى السماح للحجاج ان يتبركوا بآثار الرسول حتى جاء الذي بعده فعاد إلى القرار الاول - فالقضية ليست خوفهم أن يشرك الناس بالله ، بقدر ما هي قضية سياسية قامت على مخالفة المسلمين وقتلهم لتدعيم ملكهم وسلطتهم على المسلمين والتاريخ أكبر شاهد على ما فعلوه في أمة محمد .
وسألته عن الطرق الصوفية فأجابني بايجاز : بأن فيها ماهو إيجابي وفيها ما

( 69 )
هو سلبي ، فالايجابي منها تربية النفس وحملها على شظف العيش والزهد في ملذات الدنيا الفانية ، والسمو بها إلى عالم الارواح الزكية ، أما السلبي منها ، فهو الانزواء والهروب من واقع الحياة وحصر ذكر الله في الاعداد اللفظية وغير ذلك ، والاسلام - كما هو معلوم - يقر الايجابيات ويطرح السلبيات ويحق لنا أن نقول بأن مبادئ الاسلام وتعاليمه كلها إيجابية .

***

( 70 )

( 71 )

الشك والحيرة

كانت أجوبة السيد محمد باقر الصدر ، واضحة ومقنعة ولكن أنى لها أن تغوص في أعماق واحد مثلي قضى خمسة وعشرين عاما من عمره على مبدأ تقديس الصحابة واحترامهم وخصوصا الخلفاء الراشدين الذين أمرنا رسول الله بالتمسك بسنتهم والسير على هديهم ، وعلى رأس هؤلاء سيدنا أبوبكر الصديق وسيدنا عمر الفاروق ، وإني لم أسمع لهما ذكرا منذ قدمت العراق ، وإنما سمعت أسماء أخرى غريبة عني أجهلها تماما ، وأئمة بعدد إثنى عشر إماما ، وإدعاء بأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد نص على الامام علي بالخلافة قبل وفاته ، كيف لي أن أصدق ذلك .
أي أن يتفق المسلمون وهم الصحابة الكرام خير البشر بعد رسول الله ويتصافقوا ضد الامام علي كرم الله وجهه ، وقد علمونا منذ نعومة أظافرنا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحترمون الامام عليا ويعرفون حقه فهو زوج فاطمة الزهراء وأبوالحسن والحسين وباب مدينة العلم ، كما يعرف سيدنا علي حق أبي بكر الصديق الذي أسلم قبل الناس جميعا وصاحب رسول الله في الغار ذكره الله تعالى في القرآن ، وقد ولاه رسول الله إمامة الصلاة في مرضه وقد قال صلى الله عليه وآله : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبابكر خليلا ، ولكل ذلك اختاره المسلمون خليفة لهم ، كما يعرف الامام علي حق سيدنا عمر الذي أعز الله به الاسلام وسماه رسول الله بالفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل كما يعرف حق سيدنا عثمان

( 72 )
الذي استحت منه ملائكة الرحمن والذي جهز جيش العسرة وسماه رسول الله بذي النورين ، فكيف يجهل إخواننا الشيعة كل هذا أو يتجاهلونه ويجعلون من هؤلاء أشخاصا عاديين تميل بهم الاهواء والاطماع الدنيوية عن اتباع الحق فيعصون أوامر الرسول بعد وفاته وهم الذين كانوا يتسابقون لتنفيذ أوامره فيقتلون أولادهم وآباءهم وعشيرتهم في سبيل عزة الاسلام ونصرته ، والذي يقتل أباه وولده طاعة لله ورسوله لا يمكن أن تغره أطماع دنيوية زائلة هي اعتلاء منصة الخلافة فيتجاهل أمر رسول الله ويتركه ظهريا .
نعم من أجل كل هذا ما كنت لاصدق الشيعة في كل ما يقولون رغم أني اقتنعت بأمور كثيرة ، وبقيت بين الشك والحيرة ، الشك الذي أدخله علماء الشيعة في عقلي لان كلامهم معقول ومنطقي ، والحيرة التي غمرتني فلم أصدق أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينزلون إلى هذا المستوى الاخلاقي فيصبحون بشرا عاديين مثلنا ، لم تصقلهم أنوار الرسالة ولم يهذبهم الهدى المحمدي ؟ يا إلهي كيف يكون ذلك ؟ أيمكن أن يكون الصحابة على هذا المستوى الذي يقول به الشيعة ؟ والمهم هو أن هذا الشك وهذه الحيرة هما بداية الوهن وبداية الاعتراف بأن هناك أمورا مستورة لابد من كشفها للوصول إلى الحقيقة .
جاء صديقي منعم وسافرنا إلى كربلاء ، وهناك عشت محنة سيدنا الحسين كما يعيشها شيعته وعلمت وقتئذ بأن سيدنا الحسين لم يمت ، فالناس يتزاحمون ويتراصون حول ضريحه كالفراشات ويبكون بحرقة ولهفة لم أشهد لهما مثيلا ، فكأن الحسين استشهد الآن ، وسمعت الخطباء هناك يثيرون شعور الناس بسردهم لحادثة كربلاء في نواح ونحيب ، ولا يكاد السامع لهم أن يمسك نفسه ويتماسك حتى ينهار ، فقد بكيت وبكيت وأطلقت لنفسي عنانها وكأنها كانت مكبوتة ، وأحسست براحة نفسية كبيرة ما كنت أعرفها قبل ذلك اليوم ، وكأني كنت في صفوف أعداء الحسين وانقلبت فجأة إلى أصحابه وأتباعه الذين يفدونه بأرواحهم ، وكان الخطيب يستعرض قصة الحر وهو أحد القادة المكلفين بقتال الحسين ، ولكنه وقف في المعركة يرتعش كالسعفة ولما سأله بعض أصحابه : أخائف أنت من الموت أجابه الحر ، لا والله ولكنني أخير نفسي بين الجنة والنار ثم

( 73 )
همز جواده وانطلق إلى الحسين قائلا : هل من توبة يابن رسول الله ، ولم أتمالك عند سماع هذا أن سقطت على الارض باكيا وكأني أمثل دور الحر وأطلب من الحسين : هل من توبة ياابن رسول الله ، سامحني ياابن رسول الله ، وكان صوت الخطيب مؤثرا ، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء والنحيب عند ذلك سمع صديقي صياحي وانكب علي معانقا ، باكيا وضمني إلى صدره كما تضم الام ولدها وهو يردد يا حسين ، يا حسين ، كانت دقائق ولحظات عرفت فيها البكاء الحقيقي وأحسست وكان دموعي غسلت قلبي وكل جسدي من الداخل وفهمت وقتها حديث الرسول : « لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا » .
بقيت كامل اليوم مقبوض النفس وقد حاول صديقي تسليتي وتعزيتي وقدم إلي بعض المرطبات ولكن شهيتي انقطعت تماما ، وبقيت أسأله أن يعيد علي قصة مقتل سيدنا الحسين ، لاني ما كنت أعرف منها قليلا أو كثيرا غاية ما هناك أن شيوخنا إذا حدثونا عن ذلك يقولون أن المنافقين أعداء الاسلام الذين قتلوا سيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي هم الذين قتلوا سيدنا الحسين ، ولا نعرف غير هذا الاقتضاب بل إننا نحتفل بيوم عاشوراء على أنه من الاعياد الاسلامية وتخرج فيه زكاة الاموال وتطبخ فيه شتى المأكولات وأنواع الاطعمة الشهية ، ويطوف الصبيان على الكبار ليعطوهم بعض النقود لشراء الحلويات والالعاب .
صحيح أن هناك بعض التقاليد والعادات في بعض القرى منها أنهم يشعلون النار ، ولا يعملون في ذلك اليوم ولا يتزوجون ولا يفرحون ، ولكن نسميها عادات وتقاليد بدون ذكر أي تفسير لها ، ويروي علماؤنا في ذلك أحاديث عن فضائل يوم عاشوراء وما فيه من بركات ورحمات أنه أمر عجيب ! .
زرنا بعد ذلك ضريح العباس أخي الحسين ، ولم أكن أعرف من هو وقد روى لي صديقي قصة بطولته وشجاعته ، كما التقينا بالعديد من العلماء الافاضل الذين لا أتذكر أسماءهم بالتفصيل سوى بعض الالقاب ، كبحر العلوم والسيد الحكيم وكاشف الغطاء وآل ياسين والطباطبائي والفيروزآبادي وأسد حيدر وغيرهم ممن تشرفت بمقابلتهم .

( 74 )
والحق يقال إنهم علماء أتقياء ، تعلوهم هيبة ووقار ، والشيعة يحترمونهم كثيرا ويؤدون إليهم خمس أموالهم ، والتي بها يديرون شؤون الحوزات العلمية ويؤسسون المدارس والمطابع وينفقون على طلاب العلم الوافدين من كل البلاد الاسلامية ، إنهم مستقلون ولا يرتبطون بالحكام من قريب أو من بعيد كما هو شأن علمائنا الذين لا يفتون ولا يتكلمون إلا برأي السلطة التي تضمن معاشهم ، وتعزل من تشاء منهم وتنصب من تشاء .
إنه عالم جديد بالنسبة إليّ اكتشفته ، أو كشفه الله لي وقد أنست به بعد ما كنت أنفر منه وانسجمت معه بعد ما كنت أعاديه ، وقد أفادني هذا العالم أفكارا جديدة وبعث في حب الاطلاع والبحث والدراسة حتى أدرك الحقيقة المنشودة التي طالما راودتني عندما قرأت الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله : « افترقت بنو إسرائيل إلى إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة » .
فلا كلام لنا مع الاديان المتعددة التي يدّعي كل منها أنه هو الحق وغيره الباطل ، ولكن أعجب واندهش وأحتار عند قراءة هذا الحديث ، وليس عجبي وإندهاشي وحيرتي للحديث نفسه ولكن للمسلمين الذي يقرؤون هذا الحديث ويرددونه في خطبهم ويمرون عليه مر الكرام بدون تحليل ، ولا بحث في مدلوله لكي يتبينوا الفرقة الناجية من الفرق الضالة .
والغريب أن كل فرقة تدعي أنها هي وحدها الناجية وقد جاء في ذيل الحديث : « قالوا من هم يارسول الله ؟ قال من هم على ما أنا عليه أنا وأصحابي » فهل هناك فرقة إلا وهي متمسكة بالكتاب والسنة ، وهل هناك فرقة إسلامية تدعي غير هذا ؟ فلو سئل الامام مالك أو أبوحنيفة أو الامام الشافعي أو أحمد بن حنبل فهل يدعي أي واحد منهم إلا التمسك بالقرآن والسنة الصحيحة ؟ .
فهذه المذاهب السنية وإذا أضفنا إليها الفرق الشيعية التي كنت أعتقد

( 75 )
بفسادها وانحرافها ، فها هي الاخرى تدعي أيضا أنها متمسكة بالقرآن والسنة الصحيحة المنقولة عن أهل البيت الطاهرين ، وأهل البيت أدري بما فيه كما يقولون .
فهل يمكن أن يكونوا كلهم على حق كما يدعون ؟ وهذا غير ممكن لان الحديث الشريف يفيد نقيض ذلك ، اللهم إلا إذا كان الحديث موضوعا ، مكذوبا ، وهذا لا سبيل إليه لان الحديث متواتر عند السنة والشيعة ، أم أن الحديث لا معنى له ولا مدلول ؟ وحاشى لرسول الله صلى الله عليه وآله أن يقول شيئاً لا معنى له ولا مدلول وهو الذي لا ينطق عن الهوى وكل أحاديثه حكمة وعبر .
إذا لم يبق أمامنا إلا الاعتراف بأن هناك فرقة واحدة على الحق وما بقي فهو باطل ، فالحديث يبعث على الحيرة كما يبعث على البحث والتنقيب لمن يريد لنفسه النجاة .
ومن أجل هذا داخلني الشك والحيرة بعد لقائي بالشيعة فمن يدري لعلهم يقولون حقا وينطقون صدقا ! ولماذا لا أبحث ولا أنقب .
وقد كلفني الاسلام بقرآنه وسنته أن أبحث وأقارن وأتبين قال الله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا )(1) وقال أيضا : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الالباب )(2).
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « ابحث عن دينك حتى يقال عنك مجنون » فالبحث والمقارنة واجب شرعي على كل مكلف .
بهذا القرار وبهذه العزيمة الصادقة واعدت نفسي وأصدقائي من الشيعة في العراق وأنا أودعهم معانقا ومتأسفا لفراقهم فقد أحببتهم وأحبوني ، وقد تركت أحباء أعزاء مخلصين ضحوا بأوقاتهم من أجلي لا لشيء كما قالوا لا خوفا ولا طمعا ، وإنما ابتغاء مرضاة الله سبحانه فقد ورد في الحديث الشريف « لان يهدي
____________
( 1 ) سورة العنكبوت : آية 69 .
( 2 ) سورة الزمر : آية 18 .

( 76 )
الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس » .
وغادرت العراق بعد قضاء عشرين يوماً في ربوع الائمة وشيعتهم ، مرت كأنها حلم لذيذ يتمنى النائم أن لا يستيقظ حتى يستوفيه ، غادرت العراق متأسفاً على قصر المدة ، متأسفاً على فراق الافئدة التي أهوي إليها والقلوب التي تنبض بمحبة أهل البيت وتوجهت للحجاز قاصداً بيت الله الحرام وقبر سيد الاولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين .

***

( 77 )

السفر إلى الحجاز

وصلت إلى جدة والتقيت صديقي البشير الذي فرح بقدومي وأنزلني في بيته ، وأكرمني غاية الاكرام ، وكان يقضي أوقات فراغه معي في النزهة والمزارات بسيارته ، وذهبنا للعمرة معا وعشنا أياما كلها عبادة وتقوى ، واعتذرت له عن تأخري لبقائي في العراق وحكيت له عن اكتشافي الجديد أو الفتح الجديد ، وكان متفتحا ومطلعا فقال : فعلا أنا أسمع أن فيهم بعض العلماء الكبار وعندهم ما يقولون ، ولكن عندهم فرقا كثيرة كافرة منحرفة يخلقون لنا مشاكل متعددة في كل موسم للحج .
سألته ما هي هذه المشاكل التي يخلقونها ؟ .
أجاب : إنهم يصلون حول القبور ، يدخلون البقيع جماعات فيبكون وينوحون ويحملون في جيوبهم قطعا من الحجارة يسجدون عليها ، وإذا ذهبوا إلى قبر سيدنا الحمزة في أحد فهناك يقيمون جنازة بلطم وعويل وكأن الحمزة مات في ذلك الحين ، ومن أجل كل ذلك منعتهم الحكومة السعودية من الدخول إلى المزارات .
ابتسمت ، وقلت له : ألهذا تحكم عليهم بأنهم منحرفون عن الاسلام ؟ .
قال : هذا وغيره ، أنهم يأتون لزيارة النبي ولكنهم في نفس الوقت يقفون

( 78 )
على قبر أبي بكر وعمر ويسبونهما ويلعنونهما ومنهم من يلقي على قبر أبي بكر وقبر عمر القذارات والنجاسات .
وذكرني هذا القول بالرواية التي سمعتها من والدي غداة رجع من الحج ولكنه قال بأنهم يلقون القذارات على قبر النبي ، ولا شك بأن والدي لم يشاهد ذلك بعينيه لانه قال : شاهدنا جنودا من الجيش السعودي يضربون بعض الحجاج بالعصي ولما استنكرنا عليهم إهانتهم لحجاج بيت الله الحرام : أجابونا بأن هؤلاء ليسوا من المسلمين فهم من الشيعة جاؤوا بالقذارات ليلقوها على قبر النبي ، قال والدي : عند ذلك لعناهم وبصقنا عليهم .
وها أنا الآن أسمع من صديقي السعودي المولود في المدينة المنورة بأنهم يأتون لزيارة قبر النبي ولكنهم يلقون النجاسات على قبر أبي بكر وعمر ، وشككت في صحة الروايتين ، لاني حججت ورأيت أن الحجرة المباركة التي يوجد فيها ضريح النبي وأبي بكر وعمر مغلقة ولا يمكن لاي شخص أن يقترب منها للتمسح على بابها أو شباكها ، فضلا على أن يلقي فيها أشياء ، أولا ، لعدم وجود فجوات وثانيا لوجود حراسة مشددة من الجنود الغلاظ الذين يتداولون على الرقابة والحراسة أمام كل باب وفي أيديهم سياط يضربون بها كل من يقترب أو يحاول أن ينظر داخل الحجرة ، والغالب على الظن أن بعض الجنود من السعودية وهم يكفرون الشيعة ، رماهم بهذه التهمة ليبرر ضربه لهم ، وحتى يستفز المسلمين لمقاتلتهم أو على الاقل ليسكتوا على إهانتهم ، ويروجوا إذا رجعوا إلى بلدانهم أن الشيعة يبغضون رسول الله ويلقون على قبره النجاسات ، وبذلك يضربون عصفورين بحجر واحد .
وهذا نظير ما حكاه أحد الفضلاء ممن أثق بهم إذ قال : كنا نطوف بالبيت فإذا بشاب « أصابه مغص من شدة الزحام فتقيأ » ، وضربه الجنود الذين كانوا يحرسون الحجر الاسود وأخرجوه وهو في حالة يرثى لها واتهموه بأنه جاء بالنجاسة لتوسيخ الكعبة وشهدوا عليه وأعدم في نفس اليوم .
وجالت بخاطري هذه المسرحيات وبقيت أفكر برهة في تعليل صديقي

( 79 )
السعودي لتكفير هؤلاء الشيعة ، فلم أسمع غير أنهم يبكون ويلطمون ويسجدون على الحجر ويصلون حول القبور ، وتساءلت أفي هذا دليل على تكفير من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ؟ ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
وما أردت معاندة صديقي والدخول معه في جدال لا طائل من ورائه فاقتصرت على القول : هدانا الله وإياهم إلى صراطه المستقيم ولعن الله أعداء الدين الذين يكيدون للاسلام والمسلمين .
وكنت كلما طفت بالبيت العتيق خلال العمرة وفي كل زيارة لمكة المكرمة ، ولم يكن يطوف بها الا نفر قليل من المعتمرين ، صليت وسألت الله سبحانه من كل جوارحي أن يفتح بصيرتي ويهديني إلى الحقيقة .
وقفت على مقام ابراهيم ( ع ) واستعرضت الآية الكريمة ( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير )(1) صدق الله العظيم .
وبدأت أناجي سيدنا إبراهيم أو أبانا إبراهيم كما سماه القرآن :
- يا أبتاه ، يامن سميتنا المسلمين ، ها قد اختلف أبناؤك من بعدك فأصبحوا يهودا ونصارى ومسلمين ، واختلف اليهود فيما بينهم إلى أحدى وسبعين فرقة واختلف النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، واختلف المسلمون إلى ثلاث وسبعين فرقة وكلهم في الضلالة حسبما أخبر بذلك ابنك محمد وفرقة واحدة بقيت على عهدك يا أبتاه ! .
أهي سنة الله في خلقه كما يقول القدرية ، فالله سبحانه هو الذي كتب على كل نفس أن تكون يهودية أو نصرانية أو مسلمة ، أو ملحدة ، أو مشركة ، أم أنه
____________
( 1 ) سورة الحج : آية 78 .

( 80 )
حب الدنيا والابتعاد عن تعاليمه سبحانه ، ذلك بأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، إن عقلي لا يطاوعني بتصديق أن القضاء والقدر هو الذي حتم مصير الانسان ، بل أميل وأكاد أجزم بأن الله سبحانه خلقنا وهدانا وألهمنا الفجور والتقوى ، وأرسل إلينا رسله ليوضحوا لنا ما أشكل علينا ويعرفوننا الحق من الباطل ، ولكن الانسان غرته الحياة الدنيا وزينتها ، الانسان بأنانيته وكبريائه ، بجهله وفضوله ، بعناده ولجاجته ، بظلمه وطغيانه مال عن الحق واتبع الشيطان وابتعد عن الرحمن فورد غير مورده ، وأكل غير مأكله ، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك أحسن تعبير وأوجزه بقوله تعالى : ( إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون )(1) .
ياأبانا إبراهيم ، لا لوم على اليهود والنصارى الذين عاندوا الحق بغيا بينهم لما جاءتهم البينة ، فها هي الامة التي أنقذها الله بولدك محمد وأخرجها من الظلمات إلى النور وجعلها خير أمة أخرجت للناس ، فهي الاخرى اختلفت وتفرقت وكفر بعضها بعضا ، وقد حذرهم رسول الله ونبههم إلى ذلك وضيق عليهم حتى قال : « لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث » فما بال هذه الامة قد انقسمت وافترقت وأصبحت دويلات يعادي بعضها البعض ويحارب بعضها البعض ويكفر بعضها البعض وحتى لا يعرف بعضها البعض الآخر ، فيهجره طيلة حياته ، ما لهذه الامة ياأبانا إبراهيم بعد ما كانت خير الامم وقد ملكت الشرق والغرب وأوصلت للناس الهداية والعلوم والمعرفة والحضارة ، إذا بها اليوم أصبحت أقل الامم وأذلها فأراضيهم مغتصبة وشعوبهم مشردة ومسجدهم الاقصى تحتله عصابة من الصهاينة ولا يقدرون على تحريره ، وإذا زرت بلدانهم فإنك لا ترى إلا الفقر المدقع والجوع القاتل والاراضي القاحلة ، والامراض الفتاكة والاخلاق السيئة ، والتخلف الفكري والتقني ، والظلم والاضطهاد ، والاوساخ والحشرات ، ويكفيك فقط أن تقارن بيوت الراحة « المراحيض » العمومية كيف هي في أوروبا وكيف هي عندنا ، فإذا دخل المسافر إلى المراحيض
____________
( 1 ) سورة يونس : آية 44 .

( 81 )
في أوروبا بأسرها وجدها نظيفة تلمع كالبلور وفيها روائح طيبة بينما لا يطيق المسافر إلى البلاد الاسلامية الدخول إلى المراحيض لعفونتها ونجاستها ونتونتها ونحن الذين علمنا الاسلام « إن النظافة من الايمان والوسخ من الشيطان » ، فهل تحول الايمان إلى أوروبا وسكن الشيطان عندنا ؟ لماذا أصبح المسلمون يخافون من إظهار عقيدتهم حتى في بلدانهم ، ولا يتحكم المسلم حتى في وجهه فلا يتمكن من إعفاء لحيته ولا من لبسه الزي الاسلامي بينما يتجاهر الفاسقون بشرب الخمر والزنا وهتك الاعراض ولا يقدر المسلم دفعهم بل ولا حتى أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وقد بلغني أن في بعض البلاد الاسلامية مثل مصر والمغرب من يبعث الاباء بناتهم للبغاء من شدة الفقر والبؤس والاحتياج فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ياإلهي لماذا ابتعدت عن هذه الامة وتركتها تتخبط في الظلمات ، لا ، لا ، أستغفرك ياإلهي وأتوب إليك ، فهي التي ابتعدت عنك عن ذكرك ، واختارت طريق الشيطان ، وأنت جلت حكمتك ، وتعالت قدرتك قلت ، وقولك الحق : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين )(1) وقلت أيضا : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين )(2).
ولا شك أن ما وصلت إليه الامة الاسلامية من الانحطاط والتخلف والذلة والمسكنة لدليل قاطع على بعدها عن الصراط المستقيم ، ولا شك أن القلة القليلة أو الفرقة الواحدة من بين ثلاثة وسبعين ، لا تؤثر في مسيرة أمة بأكملها .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله « لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم » .
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ربنا لا تزغ قلوبنا
____________
( 1 ) سورة الزخرف : آية 36 .
( 2 ) سورة آل عمران : آية 144 .

( 82 )
بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .
سافرت إلى المدينة المنورة محملا برسالة من صديقي بشير إلى أحد أقربائه لكي أقيم عنده مدة بقائي هناك ، وقد كلمه من قبل بالهاتف ، واستقبلني هذا الاخير ورحب بي وأنزلني في بيته وتوجهت فور وصولي إلى زيارة رسول الله ، فاغتسلت وتطيبت ، ولبست أحسن ثيابي وأطهرها ، وكان الزوار قليلين بالنسبة إلى موسم الحج فتمكنت من الوقوف أمام قبر رسول الله وأبي بكر وعمر ، ولم أكن أتمكن من ذلك في موسم الحج لكثرة الازدحام ، وحاوت عبثا أن أمس أحد الابواب للتبرك ، فانتهرني الحرس الواقف هناك ، وكان على كل باب حرس يحرسه ، ولما أطلت الوقوف للدعاء وإبلاغ السلام الذي حملني إياه أصدقائي ، أمرني الحراس بالانصراف ، وحاولت أن أتكلم مع واحد منهم ولكن دون جدوى .
ورجعت إلى الروضة المطهرة حيث جلست أقرأ ما تيسر من القرآن ، وأحسن الترتيل وأعيده مرات لاني تخيلت وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله يستمع إلي ، وقلت في نفسي أيمكن أن يكون الرسول ميتا كسائر الاموات ، فلماذا نقول في صلاتنا ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته بصفة المخاطب ، وإذا كان المسلمون يعتقدون بأن سيدنا الخضر عليه السلام لم يمت ويرد السلام على كل من يسلم عليه بل وأن مشايخ الطرق الصوفية يعتقدون جزما بأن شيخهم أحمد التيجاني أو عبد القادر الجيلاني يأتون إليهم جهارا ويقظة لا مناما ، فلماذا نشح على رسول الله بمثل هذه المكرمة وهو أفضل الخلق على الاطلاق ، ولكن يخفف على نفسي أن المسلمين لا يشحون بذلك على رسول الله ، إلا الوهابية الذين بدأت أنفر منهم لهذا ولعدة أسباب أخرى منها الغلظة التي شاهدتها فيهم والشدة على المؤمنين الذين يخالفونهم في معتقداتهم . زرت البقيع وكنت واقفا أترحم على أرواح أهل البيت ، وكان بالقرب مني شيخ طاعن في السن يبكي وعرفت من بكائه أنه شيعي ، واستقبل القبلة وبدأ يصلي وإذا بالجندي يأتي إليه بسرعة وكأنه كان يراقب تحركاته وركله بحذائه ركلة وهو في حالة سجود فقلبه على ظهره وبقي