زيارة العراق لاول مرة

سافرنا من دمشق إلى بغداد في إحدى سيارات شركة النجف العالمية الضخمة المكيفة وكانت الحرارة تبلغ أربعين درجة مئوية في بغداد ، عندما وصلنا اتجهنا فورا إلى بيته في حي جميلة ، دخلت البيت المكيف واسترحت ثم جاءني بقميص فضفاض يسمونه « دشداشة » .
أحضر الفاكهة والاكل ودخل أهله يسلمون عليّ في أدب وإحترام وكان والده يعانقني وكأنه يعرفني من قبل ، أما والدته فوقفت بالباب في عباءة سوداء تسلم وترحب ، واعتذر صديقي عن والدته بأن المصافحة عندهم محرمة ، وأعجبت أكثر وقلت في نفسي : هؤلاء الذين نتهمهم نحن بالخروج عن الدين يحافظون عليه أكثر منا .
وقد لمست خلال أيام السفر التي قضيتها معه نبل أخلاق وعزة نفس في كرامة وشهامة وتواضع وورع لم أعهده من قبل .
وشعرت بأني لست غريبا بل وكأني في بيتي .
صعدنا في الليل إلى سطح الدار حيث فرشت لنا أماكن للنوم ، وبقيت حتى ساعة متأخرة أهذي أفي حلم أنا أم في يقظة ، أحقا انني في بغداد بجوار سيدي عبد القادر الجيلاني .
ضحك صديقي متسائلا ماذا يقول التونسيون عن عبد القادر الجيلاني ؟ ،

( 34 )
وبدأت أحكي له عن الكرامات التي تروى عندنا وعن المقامات التي تشيد في ربوعنا باسمه وأنه قطب الدائرة وكما أن محمد رسول الله هو سيد الانبياء فعبد القادر هو سيد الاولياء وقدمه على رقبة كل الاولياء وهو القائل : « كل الناس يطوف بالبيت سبعا وأنا البيت طائفا بخيامي» .
وحاولت إقناعه بأن الشيخ عبد القادر يأتي إلى بعض مريديه ومحبيه جهرة ويعالج أمراضهم ويفرج كربتهم ونسيت أو تناسيت العقيدة الوهابية التي تأثرت بها من أن ذلك كله شرك بالله ولما شعرت بعدم حماس صديقي حاولت أقناع نفسي بأن ما قلته لا يصح ، وسألته عن رأيه .
قال صديقي وهو يضحك : نم الليلة واسترح من التعب الذي لقيته في السفر وغدا إن شاء الله سنزور الشيخ عبد القادر ، وطرت فرحا لهذا الخبر ووددت لو طلع الفجر وقتئذ .
فاستغرقت في نوم عميق .
* * *

( 35 )

عبد القادر الجيلاني وموسى الكاظم

ذهبنا بعد الفطور إلى باب الشيخ ورأيت المقام الذي طالما تمنيت زيارته ، وهرولت كأني مشتاق لرؤيته ودخلت أتلهف كأني سوف أرتمي في أحضانه وصديقي يتبعني أينما رحت ، واختلطت بالزوار الذين يتراكمون على المقام تراكم الحجاج على بيت الله الحرام ومنهم من يلقي قبضات من الحلوى والزوار يتسابقون لالتقاطها وأسرعت لاخذ اثنتين منها أكلت إحداها على الفور للبركة وخبأت الاخرى في جيبي للذكرى ، صليت هناك ودعوت بما تيسر لي وشربت الماء وكأني أشرب من ماء زمزم ، ورجوت صديقي أن ينتظرني ريثما أكتب إلى أصدقائي في تونس بعض البطاقات البريدية التي اشتريتها من هناك وتمثل كلها صورة مقام الشيخ عبد القادر بالقبة الخضراء ، وأردت بذلك أن أبرهن لاصدقائي وأقاربي في تونس عن علو همتي التي أوصلتني لذلك المقام الذي لم يصلوا إليه .
بعد ذلك تناولنا طعام الغداء في مطعم شعبي وسط العاصمة ، ثم أخذني صديقي في سيارة أجرة إلى الكاظمية ، عرفت هذا الاسم من خلال ما ذكره صديقي لسائق السيارة وصلنا اليها وما أن نزلنا من السيارة نتمشى حتى اختلطنا بمجموعات كبيرة من الناس يمشون في نفس الاتجاه نساء ورجالا وأطفالا ويحملون بعض الامتعة ، ذكرني ذلك بموسم الحج ولم أكن بعد أعرف وجهة المكان المقصود حتى تراءت لي قباب ومآذن ذهبية ياخذ اشعاعها بالابصار ، وفهمت أنه مسجد من مساجد الشيعة لسابق علمي بانهم يزخرفون مساجدهم بالذهب

( 36 )
والفضة التي حرمها الاسلام ، وشعرت بحرج في الدخول إليها ، غير أنني - مراعاة لعواطف صديقي - اتبعته من غير اختيار .
دخلنا من الباب الاول وبدأت ألاحظ تمسح الشيوخ بالابواب وتقبيلها ، وسليت نفسي بقراءة لوحة كبيرة كتب عليها « ممنوع دخول النساء السافرات » مع حديث للامام علي يقول فيه : « يأتي على الناس زمان يخرج فيه النساء كاسيات عاريات . . إلى آخره » ، وصلنا إلى المقام وبينما كان صديقي يقرأ إذن الدخول كنت أنظر إلى الباب وأعجب من هذا الذهب والنقوش التي تملا صفحاته وكلها آيات قرآنية .
دخل صديقي ودخلت خلفه وأنا على حذر تجول بخاطري عدة أساطير قرأتها في بعض الكتب التي تكفر الشيعة ورأيت داخل المقام نقوشا وزخرفة لم تخطر على بالي ودهشت لما رأيت وتصورت نفسي في عالم غير مألوف ولا معروف ، ومن حين إلى آخر أنظر بإشمئزاز إلى هؤلاء الذين يطوفون حول الضريح باكين مقبلين أركانه وقضبانه بينما يصلي البعض الآخر قرب الضريح ، واستحضرت في خاطري حديث الرسول صلى الله عليه وآله وهو يقول : « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أوليائهم مساجد » .
وابتعدت عن صديقي الذي ما أن دخل حتى أجهش بالبكاء ثم تركته يصلي واقتربت من اللوحة المكتوبة للزيارة وهي معلقة على الضريح .
وقرأتها ولم أفهم الكثير منها بما حوته من أسماء غريبة عني أجهلها ، ابتعدت في زاوية وقرأت الفاتحة ترحما على صاحب الضريح قائلا : « اللهم إن كان هذا الميت من المسلمين فأرحمه فأنت أعلم به مني » .
واقترب مني صديقي وهمس في أذني قائلا : إن كانت لديك حاجة فاسأل الله في هذا المكان لاننا نسمية باب الحوائج وما أعطيت أهمية لقوله سامحني الله ، بل كنت أنظر إلى الشيوخ الطاعنين في السن وعلى رؤوسهم عمائم بيض وسود وفي جباههم آثار السجود ، وزاد في هيبتهم تلك اللحى التي أعفوها وتنطلق منها روائح طيبة ولهم نظرات حادة مهيبة .

( 37 )
وما أن يدخل الواحد منهم حتى يجهش بالبكاء ، وتساءلت في داخلي أيمكن أن تكون هذه الدموع كاذبة ؟ ؟ أيمكن أن يكون هؤلاء الطاعنون في السن مخطئين ؟
خرجت متحيرا مندهشا مما شاهدته بينما كان صديقي يرجع أدراجه احتراما لئلا يعطي المقام ظهره .
سألته : من هو صاحب هذا المقام ؟ .
قال : الامام موسى الكاظم .
قلت : ومن هو الامام موسى الكاظم ؟ .
قال : سبحان الله ! أنتم إخواننا أهل السنة والجماعة تركتم اللب وتمسكتم بالقشور .
قلت غاضبا منقبضا : كيف تمسكنا بالقشور وتركنا اللب ؟ .
فهدأني وقال : يا أخي أنت منذ دخلت العراق لا تفتأ تذكر عبد القادر الجيلاني فمن هو عبد القادر الجيلاني الذي استوجب كل اهتمامك ! ؟ .
أجبت على الفور وبكل فخر : هو من ذرية الرسول ، ولو كان نبي بعد محمد لكان عبد القادر الجيلاني رضى الله تعالى عنه ! .
قال : يا أخ السماوي هل تعرف التاريخ الاسلامي ؟ .
وأجبت في غير تردد بنعم ! وفي الحقيقة ما عرفت من التاريخ الاسلامي قليلا ولا كثيرا لان أساتذتنا ومعلمينا كانوا يمنعوننا من ذلك مدعين بأنه تاريخ أسود مظلم لا فائدة من قراءته ، وأذكر على سبيل المثال أن الاستاذ المختص في تدريسنا مادة البلاغة كان يدرسنا الخطبة الشقشقية من كتاب نهج البلاغة للامام علي ، واحترت كما احتار عدد من التلاميذ عند قراءتها ، وتجرأت وسألته إن كان هذا من كلام الامام علي حقا ، فأجاب : « قطعا ومن لمثل هذه البلاغة سواه .
ولو لم يكن كلامه كرم الله وجهه ، لم يكن علماء المسلمين أمثال الشيخ

( 38 )
محمد عبده مفتي الديار المصرية ليهتم بشرحه » .
عند ذلك قلت : إن الامام علي يتهم أبابكر وعمر بأنهما اغتصبا حقه في الخلافة فثارت تاثرة الاستاذ وانتهرني بشدة وهددني بالطرد إن عدت لمثل هذا السؤال ، وأضاف قائلا : نحن ندرس بلاغة ولا ندرس التاريخ وما يهمنا شيئا من أمر التاريخ الذي سودت صفحاته الفتن والحروب الدامية بين المسلمين وكما طهر الله سيوفنا من دمائهم فلنطهر ألسنتنا من شتمهم .
ولم أقنع بهذا التعليل وبقيت ناقما على ذلك الاستاذ الذي يدرسنا بلاغة بدون معان ، وحاولت مرارا عديدة دراسة التاريخ الاسلامي ولكن لم تتوفر عندي المصادر والامكانات لتوفير الكتب ، وما وجدت أحدا من شيوخنا وعلمائنا يهتم بها وكأنهم تصافقوا على طيها وعدم النظر فيها ، فلا تجد أحدا يملك كتابا تاريخيا كاملا .
فلما سألني صديقي عن معرفة التاريخ أحببت معاندته فأجبته بنعم ولسان حالي يقول : أعرف أنه تاريخ مظلم مسود لا فائدة فيه ، إلا الفتن والاحقاد والتناقضات .
قال : هل تعرف متى ولد عبد القادر الجيلاني ، في أي عصر ؟ قلت :
حسب التقريب في القرن السادس أو القرن السابع ؛ قال : فكم بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قلت ستة قرون ؛ قال : فاذا كان القرن فيه جيلان على أقل تقدير فيكون نسبة عبد القادر الجيلاني للرسول بعد إثني عشر جدا ؛ قلت نعم ! قال : فهذا موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن فاطمة الزهراء يصل نسبه إلى جده رسول الله بعد أربعة أجداد فقط .
أو بالاحرى فهو من مواليد القرن الثاني للهجرة فأيهما أقرب إلى رسول الله موسى أم عبدالقادر ؟ .
وبدون تفكير قلت : هذا أقرب طبعا ! ولكن لماذا نحن لا نعرفه ولا نسمع بذكره ؟ قال : هذا هو بيت القصيد ولذلك قلت بأنكم - واسمح لي أن أعيدها - تركتم اللب وتمسكتم بالقشور فلا تؤاخذني وأرجوك المعذرة .

( 39 )
كنا نتحدث ونمشي ونتوقف من حيث لآخر حتى وصلنا إلى منتدى علمي يجلس فيه الطلبة والاساتذة ويتبادلون الآراء والنظريات ، هناك جلسنا وكان يبحث بعينيه في الجالسين وكأنه على موعد مع أحدهم ؛ جاء أحد الوافدين وسلم علينا وفهمت أنه زميله في الجامعة وسأله عن شخص علمت من الاجوبة أنه دكتور وسيأتي عما قريب ، في الاثناء قال لي صديقي : أنا جئت بك لهذا المكان قاصدا أن أعرفك بالدكتور المتخصص في الابحاث التاريخية وهو أستاذ التاريخ في جامعة بغداد وقد حصل على الدكتوراه في أطروحته التي كتبها عن عبد القادر الجيلاني وسوف ينفعك بحول الله ، لانني لست مختصا في التاريخ .
شربنا بعض العصير البارد حتى وصل الدكتور ونهض إليه صديقي مسلما عليه وقدمني إليه وطلب منه أن يقدم إلي لمحة عن تاريخ عبد القادر الجيلاني ، واستأذننا في الانصراف لبعض شؤونه .
طلب لي الدكتور مشروبا باردا وبدأ يسألني عن إسمي وبلادي ومهنتي كما طلب مني أن أحدثه عن شهرة عبد القادر الجيلاني في تونس .
ورويت له الكثير في هذا المجال حتى قلت والناس عندنا يعتقدون بأن الشيخ عبدالقادر كان يحمل رسول الله على رقبته ليلة المعراج عندما تأخر جبريل خوفا من الاحتراق وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : قدمي على رقبتك وقدمك على رقاب كل الاولياء إلى يوم القيامة .
وضحك الدكتور كثيرا عند سماعه كلامي وما دريت أكان ضحكه على هذه الروايات أم كان على الاستاذ التونسي الذي بين يديه ! بعد مناقشة قصيرة حول الاولياء والصالحين قال أنه بحث طوال سبع سنوات سافر خلالها إلى لاهور في الباكستان وإلى تركيا وإلى مصر وبريطانيا وكل الاماكن التي بها مخطوطات تنسب إلى عبد القادر الجيلاني واطلع عليها وصورها ، وليس فيها اي إثبات بأن عبد القادر الجيلاني هو من سلالة الرسول ، وغاية ما هنالك بيت من الشعر ينسب إلى أحد أحفاده يقول فيه : « وجدي رسول الله » وقد يحمل ذلك كما قال بعض العلماء ، على تأويل حديث النبي صلى الله عليه وآله : « أنا جد كل تقي » وزادني بأن

( 40 )
التاريخ الصحيح يثبت أن عبد القادر أصله فارسي وليس عربيا أصلا وقد ولد في بلدة بإيران تسمى جيلان وإليها ينسب عبد القادر ، وقد نزح إلى بغداد حيث تعلم هناك وجلس يدرس في وقت كان في الانحلال الخلقي فيه فاشيا . وكان الرجل زاهدا فأحبه الناس وبعد وفاته أسسوا الطريقة القادرية نسبة إليه ، كما يفعل دائما أتباع كل متصوف وأضاف قائلا : حقا أن حالة العرب مؤسفة من هذه الناحية .
وثارت في رأسي حمية الوهابية فقلت للدكتور : إذاً أنت وهابي الفكر يا حضرة الدكتور فهم يقولون كما تقول ليس هناك أولياء . فقال : لا أنا لست على رأي الوهابية .
والمؤسف عند المسلمين هو إما الافراط وأما التفريط ، فأما أن يؤمنوا ويصدقوا بكل الخرافات التي لا تستند إلى دليل ولا عقل ولا شرع ، وأما أن يكذبوا بكل شيء حتى بمعجزات نبينا محمد وأحاديثه لانها لا تتماشى وأهواءهم وعقائدهم التي يعتقدونها وقد شرقت طائفة وغربت أخرى فالصوفية يقولون بإمكانية حضور الشيخ عبد القادر الجيلاني مثلا في بغداد وفي نفس الوقت في تونس ، وقد يشفي مريضا في تونس وينقذ غريقا في نهر دجلة في نفس اللحظة فهذا إفراط ، والوهابية - كرد فعل على الصوفية - كذبوا بكل شيء حتى قالوا بشرك من توسل بالنبي ، وهذا تفريط لا يا أخي نحن كما قال الله تعالى في كتابه العزيز : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس )(1).
أعجبني كلامه كثيرا وشكرته مبدئيا ، وأبديت قناعتي بما قال .
فتح محفظته وأخرج كتابه عن عبدالقادر الجيلاني وأهدانيه ، كما دعاني للضيافة فاعتذرت وبقينا نتحدث عن تونس وعن شمال إفريقيا حتى جاء صديقي
____________
(1) سورة البقرة : آية 143 .

( 41 )
ورجعنا إلى البيت ليلا بعد أن أمضينا كامل اليوم في الزيارات والمناقشات ، وشعرت بالتعب والارهاق فاستسلمت للنوم .
استيقظت باكرا وصليت وجلست أقرأ الكتاب الذي يبحث في حياة عبد القادر ، فما أفاق صديقي حتى كنت قد أتممت نصفه ، وكان يتردد علي من حين إلى آخر داعيا إياي لتناول الفطور فلم أوافق حتى أنهيت الكتاب وقد شدني إليه وأدخل علي شكا لم يلبث طويلا حتى زال قبل خروجي من العراق .

* * *

( 42 )

( 43 )

الشك والتساؤل

بقيت في بيت صديقي ثلاثة أيام استرحت خلالها وفكرت مليا في ما سمعته من هؤلاء الذين اكتشفتهم وكأنهم كانوا يعيشون على سطح القمر ، فلماذا لم يحدثنا أحد عنهم إلا بما هو مزر ومشين ، لماذا أنا أكرههم وأحقد عليهم دون أن أعرفهم ، لعل ذلك ناتج من الاشاعات التي نسمعها عنهم من أنهم يعبدون عليا وأنهم ينزلون أئمتهم منزلة الآلهة وأنهم يقولون بالحلول ، وأنهم يسجدون للحجر من دون الله ، وأنهم - كما حدثنا أبي بعد رجوعه من الحج - يأتون إلى قبر الرسول ليلقون فيه القذرات والنجاسات وقد أمسكهم السعوديون وحكموا عليهم بالاعدام . . وأنهم . . وأنهم . . حدث ولا حرج .
كيف يسمع المسلمون بهذا ولا يحقدون على هؤلاء الشيعة ولا يبغضونهم ، بل كيف لا يقاتلونهم ! .
ولكن كيف أصدق هذه الاشاعات وقد رأيت بعيني ما رأيت وسمعت بأذني ما سمعت وها قد مضى على وجودي بينهم أكثر من أسبوع ولم أر منهم ولم أسمع إلا الكلام المنطقي الذي يدخل العقول بدون استئذان ، بل قد استهوتني عباداتهم وصلاتهم ودعاؤهم وأخلاقهم واحترامهم لعلمائهم حتى تمنيت أن أكون مثلهم ، وبقيت أتسأل : هل حقا أنهم يكرهون رسول الله ! وكلما ذكرته وكثيرا ما أذكره لاختبارهم فيصيحون بكل جوارحهم «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» وظننت أنهم ينافقون ، ولكن زال هذا الظن بعد ما تصفحت كتبهم التي

( 44 )
قرأت شيئا منها فوجدت احتراما وتقديسا وتنزيها لشخص الرسول لم أعهده في كتبنا فهم يقولون بعصمته صلى الله عليه وآله في كل شيء قبل البعثة وبعدها بينما نقول نحن أهل السنة والجماعة بأنه معصوم في تبليغ القرآن فقط وما عدا ذلك فهو بشر يخطيء كغيره وكثيرا ما نستدل على ذلك بخطئه - صلى الله عليه وآله - وتصويب بعض الصحابة رأيه ولنا في ذلك أمثلة متعددة بينما يرفض الشيعة أن يكون رسول الله يخطئ ويصيب غيره فكيف أصدق بعد هذا أنهم يكرهون رسول الله ؟ كيف .
وتحدثت يوما مع صديقي ورجوته وأقسمت عليه أن يجيبني بصراحة ، وكان الحوار التالي :
- أنتم تنزلون عليا رضي الله عنه وكرم الله وجهه منزلة الانبياء لاني ما سمعت أحدا منكم يذكره إلا ويقول « عليه السلام » .
- فعلا نحن عندما نذكر أمير المؤمنين أو أحد الائمة من بنيه نقول « عليه السلام » ، فهذا لا يعني أنهم أنبياء ، ولكنهم ذرية الرسول وعترته الذين أمرنا الله بالصلاة عليهم في محكم تنزيله وعلى هذا يجوز أن نقول : عليهم الصلاة والسلام أيضا .
- لا يا اخي نحن لا نعترف بالصلاة والسلام إلا على رسول الله والانبياء الذين سبقوه ولا دخل لعلي وأولاده في ذلك رضي الله عنهم .
- أنا أطلب منك وأرجوك أن تقرأ كثيرا حتى تعرف الحقيقة .
- أي الكتب أقرأ ياأخي ؟ ألست انت الذي قلت لي بأن كتب أحمد أمين ليست حجة على الشيعة ، كذلك كتب الشيعة ليست حجة علينا ولا نعتمد عليها ، ألا ترى أن كتب النصارى التي يعتمدونها تذكر أن عيسى ( ع ) قال : « إني ابن الله » في حين أن القرآن الكريم - وهو أصدق القائلين - يقول على لسان عيسى بن مريم : ( ما قلت لهم ، إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم ) .
- حسنا قلت : لقد قلت ذلك ، والذي أريده منك هو هذا ، أعني

( 45 )
استعمال العقل والمنطق والاستدلال بالقرآن الكريم والسنة الصحيحة ما دمنا مسلمين ، ولو كان الحديث مع يهودي أو نصراني لكان الاستدلال بغير هذا .
- إذاً ، في أي كتاب سأعرف الحقيقة ، وكل مؤلف وكل فرقة وكل مذهب يدعي أنه على الحق .
- سأعطيك الآن دليلا ملموسا ، لا يختلف فيه المسلمون بشتى مذاهبهم وفرقهم ومع ذلك فأنت لا تعرفه ! .
- وقل ربي زدني علما .
- هل قرأت تفسير الآية الكريمة : ( أن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما )(1) .
فقد أجمع المفسرون سنة وشيعة على أن الصحابة الذين نزلت فيهم هذه الآية ، جاؤوا إلى رسول الله فقالوا : يارسول الله عرفنا كيف نسلم عليك ولم نعرف كيف نصلي عليك ! فقال : قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ولا تصلوا علي الصلاة البتراء ، قالوا : وما الصلاة البتراء يارسول الله ، قال : أن تقولوا اللهم صل على محمد وتصمتوا ، وأن الله كامل ولا يقبل إلا الكامل .
ولكل ذلك عرف الصحابة ومن بعدهم التابعون أمر رسول الله فكانوا يصلون عليه الصلاة الكاملة ، حتى قال الامام الشافعي في حقهم :

يا آل بيت رسول الله حبكم * فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الشأن أنكم * من لم يصل عليكم لا صلاة له

كان كلامه يطرق سمعي وينفذ إلى قلبي ويجد في نفسي صدي إيجابيا ، وبالفعل فقد سبق لي أن قرأت مثل هذا في بعض الكتب ، ولكن لا أذكر في أي
____________
(1) سورة الاحزاب : آية 56 .

( 46 )
كتاب بالضبط ، واعترفت له بأننا عندما نصلي على النبي نصلي على آله وصحبه أجمعين ولكن لا نفرد عليا بالسلام كما يقول الشيعة .
قال : فما رأيك في البخاري ؟ أهو من الشيعة ؟ .
قلت : إمام « جليل من أئمة أهل السنة والجماعة وكتابه أصح الكتب بعد كتاب الله » . عند ذلك قام وأخرج من مكتبته صحيح البخاري وفتحه وبحث عن الصفحة التي يريدها ، وأعطاني لاقرأ فيه : حدثنا فلان عن فلان عن علي - عليه السلام - . ولم أصدق عيني واستغربت حتى أنني شككت أن يكون ذلك هو صحيح البخاري ، واضطربت وأعدت النظر في الصفحة وفي الغلاف ، ولما أحس صديقي بشكي أخذ مني الكتاب وأخرج لي صفحة أخرى فيها : « حدثنا علي بن الحسين ( عليهما السلام ) » فما كان جوابي بعدها إلا أن قلت : سبحان الله واقتنع مني بهذا الجواب وتركني وخرج ، وبقيت أفكر وأراجع قراءة تلك الصفحات وأتثبت في طبعة الكتاب فوجدتها من طبع ونشر شركة الحلبي وأولاده بمصر .
ياإلهي . لماذا أكابر وأعاند وقد أعطاني حجة ملموسة من أصح الكتب عندنا ، والبخاري ليس شيعيا قطعا ، وهو من أئمة أهل السنة ومحدثيهم ، أأسلم لهم بهذه الحقيقة وهي قولهم علي ( ع ) ، ولكن أخاف من هذه الحقيقة فلعلها تتبعها حقائق أخرى لا أحب الاعتراف بها ، وقد انهزمت أمام صديقي مرتين فقد تنازلت عن قداسة عبد القادر الجيلاني وسلمت بأن موسى الكاظم أولى منه ، وسلمت أيضا بأن عليا ( ع ) هو أهل لذلك ، ولكني لا أريد هزيمة أخرى ، وأنا الذي كنت منذ أيام قلائل عالما في مصر أفخر بنفسي ويمجدني علماء الازهر الشريف ، أجد نفسي اليوم مهزوما مغلوبا ومع من ؟ مع الذين كنت ولا أزال أعتقد أنهم على خطأ ، فقد تعودت على أن كلمة « شيعة » هي مسبة .
إنه الكبرياء وحب الذات ، إنها الانانية واللجاج والعصبية ، إلهي ألهمني رشدي ، وأعني على تقبل الحقيقة ولو كانت مرة .
اللهم افتح بصري وبصيرتي واهدني إلى صراطك المستقيم واجعلني من

( 47 )
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه .
رجع بي صديقي إلى البيت وأنا أردد هذه الدعوات فقال مبتسما : هدانا الله وإياكم وجميع المسلمين ، وقد قال في محكم كتابه : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )(1).
والجهاد في هذه الآية يحمل معنى البحث العلمي للوصول إلى الحقيقة ، والله سبحانه يهدي إلى الحق كل من بحث عن الحق .

* * *

____________
( 1 ) سورة العنكبوت : آية 69 .

( 48 )

( 49 )

السفر إلى النجف

أعلمني صديقي ذات ليلة بأننا سنسافر غدا إن شاء الله إلى النجف ، وسألته وما النجف ؟ قال : إنها مدينة علمية فيه مرقد الامام علي بن أبي طالب ، فتعجبت كيف يكون للامام علي قبر معروف .
لان شيوخنا يقولون أنه لا وجود لقبر معروف لسيدنا علي ، وسافرنا في سيارة عمومية حتى وصلنا إلى الكوفة وهناك نزلنا لزيارة جامع الكوفة وهو من الآثار الاسلامية الخالدة ، وكان صديقي يريني الاماكن الاثرية ويزورني جامع مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة ويحكي لي بإيجاز كيف استشهدا ، كما أدخلني المحراب الذي استشهد فيه الامام علي ، وبعدها زرنا البيت الذي كان يسكنه الامام مع ابنيه سيدنا الحسن وسيدنا الحسين ، وفي البيت البئر التي كانوا يشربون منها ويتوضؤون بمائها ، وعشت لحظات روحية نسيت خلالها الدنيا وما فيها لاسبح في زهد الامام وبساطة عيشه وهو أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين .
ولا يفوتني أن أذكر الحفاوة والتواضع اللذين شاهدتهما هناك في الكوفة ، فما مررنا بمجموعة إلا وقاموا إلينا وسلموا علينا ، وكأن صديقي يعرف الكثير منهم ودعانا أحدهم وهو مدير المعهد بالكوفة إلى بيته حيث إلتقينا باولاده وبتنا عندهم ليلة سعيدة ، وشعرت وكأني بين أهلي وعشيرتي ، وكانوا إذا تكلموا عن أهل السنة والجماعة يقولون : « إخواننا من السنة » فأنست بحديثهم وسألتهم بعض الاسئلة الاختبارية لاتيقن من صدق كلامهم .

( 50 )
تحولنا إلى النجف وهي تبعد عن الكوفة حوالي عشرة كيلو مترات وما أن وصلنا حتى تذكرت مسجد الكاظمية في بغداد فبدت المآذن الذهبية تحيط بقبة من الذهب الخالص ودخلنا إلى حرم الامام بعد قراءة الاذن بالدخول كما هي عادة الزوار من الشيعة ، ورأيت هنا أعجب مما رأيت هناك في جامع موسى الكاظم ، وكالعادة وقفت أقرأ الفاتحة وأنا أشك في أن هذا القبر يحوي جثمان الامام علي ، وكأني اقتنعت ببساطة ذلك البيت الذي كان يسكنه في الكوفة وقلت في نفسي حاشى للامام علي أن يرضى بهذه الزخرفة من الذهب والفضة بينما يموت المسلمون جوعا في شتى بقاع الدنيا ، وخصوصا لما رأيت فقراء في الطريق يمدون أيديهم للمارة طلبا للصدقة فكان لسان حالي يقول : أيها الشيعة أنتم مخطئون ، اعترفوا على الاقل بهذا الخطأ فالامام علي هو الذي بعثه رسول الله لتسوية القبور ، فما لهذه القبور المشيدة بالذهب والفضة إنها وأن لم تكن شركا بالله فهي على الاقل خطأ فادح لا يغفره الاسلام .
وسألني صديقي وهو يمد إلي قطعة من الطين اليابس هل أريد أن أصلي ، وأجبته في حدة : نحن لا نصلي حول القبور ! قال : إذاً انتظرني قليلا حتى أصلي ركعتين ، وفي انتظاره كنت أقرأ اللوحة المعلقة على الضريح وأنظر إلى داخله من خلال القضبان الذهبية المنقوشة وإذا به مليء بالاوراق النقدية من كل الالوان من الدرهم والريال إلى الدينار والليرة وكلها يلقيها الزوار تبركا للمساهمة في المشاريع الخيرية التابعة للمقام وظننت لكثرتها أن لها شهورا ، ولكن صديقي أعلمني في ما بعد أن المسؤولين عن تنظيف المقام يأخذون كل ذلك في كل ليلة بعد صلاة العشاء .
خرجت وراءه مدهوشا وكأنني تمنيت أن يعطوني منها نصيبا أو يوزعوها على الفقراء والمساكين وما أكثرهم هناك .
كنت ألتفت في كل اتجاه داخل السور الكبير المحيط بالمقام حيث يصلي جماعات من الناس هنا وهناك وينصت آخرون إلى بعض الخطباء الذين اعتلوا منبرا وكأني سمعت نواح بعضهم في صوت متهدج .

( 51 )
ورأيت جموعا من الناس يبكون ويلطمون على صدورهم وأردت أن أسال صديقي ، ما بال هؤلاء يبكون ويلطمون ومرت بقربنا جنازة وشاهدت بعضهم يرفع الرخام في وسط الصحن وينزل الميت هناك ، فظننت أن بكاء هؤلاء لاجل الميت العزيز عليهم .

* * *

( 52 )

( 53 )

لقاء العلماء

أدخلني صديقي إلى مسجد في جانب الحرم مفروش كله بالسجاد وفي محرابه آيات قرآنية منقوشة بخط جميل ، ولفت انتباهي مجموعة من الصبيان المعممين جالسين قرب المحراب يتدارسون وكل واحد في يده كتاب ، فأعجبت لهذا المنظر الجميل ولم يسبق لي أن رأيت شيوخا بهذا السن أعمارهم تتراوح ما بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة وقد زادهم جمالا ذلك الزي فأصبحوا كالاقمار ، سألهم صديقي عن « السيد » فأخبروه بأنه يصلي بالناس جماعة ، ولم أفهم من هو « السيد » الذي سألهم عنه غير أنني توقعت أنه أحد العلماء .
وعرفت فيما بعد أنه السيد الخوئي زعيم الحوزة العلمية للطائفة الشيعية .
مع العلم بأن لقب « السيد » عند الشيعة هو لقب لكل منحدر من سلالة النبي صلى الله عليه وآله ، ويرتدي « السيد » العالم أو طالب العلوم الدينية عمامة سوداء ، وأما العلماء الآخرون فيرتدون عمامة بيضاء ويلقبون بـ « الشيخ » وهناك نوع من الاشراف الذين ليسوا بعلماء فلهم عمامة خضراء .
طلب إليهم صديقي أن أجلس معهم ريثما يذهب للقاء « السيد » ورحبوا بي وأحاطوني بنصف دائرة وأنا أنظر في وجوههم وأستشعر براءتهم ونقاوة سريرتهم وأستحضر في ذهني حديث النبي صلى الله عليه وآله حيث قال : « يولد المرء على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » وقلت في نفسي : أو يشيعانه .

( 54 )
سألوني من أي البلاد أنا ، قلت : من تونس ، قالوا : هل يوجد عندكم حوزات علمية ؟ أجبتهم : عندنا جامعات ومدارس ، وانهالت علي الاسئلة من كل جانب ، وكلها أسئلة مركزة ومحرجة ، فماذا أقول لهؤلاء الابرياء الذين يعتقدون أن في العالم الاسلامي كله حوزات علمية تدرس الفقه وأصول الدين والشريعة والتفسير ، وما يدرون أن في عالمنا الاسلامي وفي بلداننا التي تقدمت وتطورت ، أبدلنا المدارس القرآنية بروضات للاطفال يشرف عليها راهبات نصرانيات فهل أقول لهم إنهم ما زالوا « متخلفين » بالنسبة إلينا ؟ .
وسألني أحدهم : ما هو المذهب المتبع في تونس ؟ قلت : المذهب المالكي ، قال : ألا تعرفون المذهب الجعفري ؟ فقلت : خير إن شاء الله ، ما هذا الاسم الجديد ؟ لا ، نحن لا نعرف غير المذاهب الاربعة وما عداها فليس من الاسلام في شيء .
وابتسم قائلا : عفوا ، أن المذهب الجعفري هو محض الاسلام ، ألم تعرف بأن الامام أبا حنيفة تتلمذ على يد الامام جعفر الصادق ؟ وفي ذلك يقول أبو حنيفة : « لولا السنتان لهلك النعمان » ، سكت ولم أبد جوابا ، فقد أدخل علي أسما جديدا ما سمعت به قبل ذلك اليوم ولكني حمدت الله أنه - أي إمامهم جعفر الصادق - لم يكن أستاذا للامام مالك وقلت نحن مالكية ولسنا أحنافا .
فقال : أن المذاهب الاربعة أخذ بعضهم عن بعض فأحمد بن حنبل أخذ عن الشافعي والشافعي أخذ عن مالك وأخذ مالك عن أبي حنيفة وأبوحنيفة أخذ عن جعفر الصادق وعلى هذا فكلهم تلاميذ لجعفر بن محمد ، وهو أول من فتح جامعة إسلامية في مسجد جده رسول الله وقد تتلمذ على يديه أكثر من أربعة آلاف محدث وفقيه ، وعجبت لهذا الصبي الذكي الذي يحفظ ما يقول مثل ما يحفظ أحدنا سورة من القرآن ، وقد أدهشني أكثر عندما كان يسرد علي بعض المصادر التاريخية التي يحفظ عدد أجزائها وأبوابها ، وقد استرسل معي في الحديث وكأنه أستاذ يعلم تلميذه ، وشعرت بالضعف أمامه ، وتمنيت لو أني خرجت مع صديقي ولم أبق مع الصبيان ، فما سألني أحدهم عن شيء يخص الفقه أو التاريخ إلا وعجزت عن الجواب ؛ سألني من أقلد من الائمة ؟ قلت : الامام مالك !

( 55 )
قال : كيف تقلد ميتا بينك وبينه أربعة عشر قرنا ، فإذا أردت أن تسأله الآن عن مسألة مستحدثة فهل يجيبك ؟ فكرت قليلا وقلت : وأنت جعفرك مات أيضا منذ أربعة عشر قرنا فمن تقلد ؟ أجاب بسرعة هو والباقون من الصبية : نحن نقلد السيد الخوئي فهو إمامنا .
ولم أفهم أكان الخوئي أعلم أم جعفر الصادق ، وبقيت معهم أحاول تغيير الموضوع فكنت أسألهم عن أي شيء يلهيهم عن مسألتي فسألتهم عن عدد سكان النجف وكم تبعد النجف عن بغداد وهل يعرفون بلدانا اخرى غير العراق ، وكلما أجابوا أعددت لهم سؤالا غيره حتى أشغلهم عن سؤالي لاني عجزت وشعرت بالقصور ، ولكن هيهات أن أعترف لهم وإن كنت في داخلي معترفا إذ أن ذلك المجد والعز والعلم الذي ركبني في مصر تبخر هنا وذاب ، خصوصا بعد لقاء هؤلاء الصبيان عرفت الحكمة القائلة :

فقل لمن يدعي في العلم فلسفة * عرفت شيئا وغابت عنك أشياء

وتصورت أن عقول هؤلاء الصبيان أكبر من عقول أولئك المشايخ الذين قابلتهم في الازهر وأكبر من عقول علمائنا الذين عرفتهم في تونس .
ودخل السيد الخوئي ومعه كوكبة من العلماء عليهم هيبة ووقار ، وقام الصبيان وقمت معهم ، وتقدموا من « السيد » يقبلون يده ، وبقيت مسمرا في مكاني ، ما إن جلس « السيد » حتى جلس الجميع وبدأ يحييهم بقوله : « مساكم الله بالخير » يقولها لكل واحد منهم فيجيبه بالمثل حتى وصل دوري فأجبت كما سمعت ، بعدها أشار علي صديقي الذي تكلم مع « السيد » همسا ، بأن أدنو من « السيد » وأجلسني على يمينه وبعد التحية قال لي صديقي : أحك للسيد ماذا تسمعون عن الشيعة في تونس .
فقلت يا أخي كفانا من الحكايات التي نسمعها من هنا وهناك ، والمهم هو أن أعرف بنفسي ماذا يقول الشيعة ، وعندي بعض الاسئلة أريد الجواب عنها بصراحة .

( 56 )
فألح علي صديقي وأصر على أن أروي « للسيد » ما هو اعتقادنا في الشيعة ، قلت : الشيعة عندنا هم أشد على الاسلام من اليهود والنصارى لان هؤلاء يعبدون الله ويؤمنون برسالة موسى ( ع ) ، بينما نسمع عن الشيعة أنهم يعبدون عليا ويقدسونه ، ومنهم فرقة يعبدون الله ولكنهم ينزلون عليا بمنزلة رسول الله ورويت قصة جبريل كيف أنه خان الامانة حسب ما يقولون وبدلا من أداء الرسالة إلى علي أداها إلى محمد صلى الله عليه وآله .
أطرق « السيد » رأسه هنيهة ثم نظر إلي وقال : نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وما عليّ إلا عبد من عبيد الله والتفت إلى بقية الجالسين قائلا ومشيرا إلي : أنظروا إلى هؤلاء الابرياء كيف تغلطهم الاشاعات الكاذبة ، وهذا ليس بغريب فقد سمعت أكثر من ذلك من أشخاص آخرين ، فلا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ، ثم التفت إلي وقال : هل قرأت القرآن ؟ قلت : حفظت نصفه ولم أتخط العاشرة من عمري .
قال : هل تعرف أن كل الفرق الاسلامية على اختلاف مذاهبها متفقة على القرآن الكريم ، فالقرآن الموجود عندنا هو نفسه موجود عندكم . قلت نعم هذا أعرفه .
قال : إذاً ألم تقرأ قول الله سبحانه وتعالى : ( وما محمد إلا رسول ، قد خلت من قبله الرسل )(1).
وقوله أيضا : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار )(2).
وقوله : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين )(3).
____________
( 1 ) سورة آل عمران : آية 144 .
( 2 ) سورة الفتح : آية 29 .
( 3 ) سورة الاحزاب : آية 40 .

( 57 )
قلت بلى أعرف هذه الآيات قال : فأين هو علي ؟ إذا كان قرآننا يقول بأن محمدا هو رسول الله فمن أين جاءت هذه الفرية ؟ سكت ولم أجد جوابا ، وأضاف يقول : وأما خيانة جبريل « حاشاه » فهذه أقبح من الاولى ، لان محمد كان عمره أربعين سنة عندما أرسل الله سبحانه إليه جبريل ( ع ) ، ولم يكن علي إلا صبيا صغيرا عمره ست أو سبع سنوات ، فكيف يا ترى يخطئ جبريل ولا يفرق بين محمد الرجل وعلي الصبي ؟ .
ثم سكت طويلا بينما بقيت أفكر في أقواله وأنا مطرق أحلل وأتذوق هذا الحديث المنطقي الذي نفذ إلى أعماقي وأزال غشاوة عن بصري وتساءلت في داخلي كيف لم نحلل نحن بهذا المنطق .
أضاف « السيد الخوئي » يقول : وأزيدك بأن الشيعة هي الفرقة الوحيدة من بين كل الفرق الاسلامية الاخرى التي تقول بعصمة الانبياء والائمة ، فإذا كان أئمتنا سلام الله عليهم معصومين عن الخطأ وهم بشر مثلنا ، فكيف بجبريل وهو ملك مقرب سماه رب العزة بـ « الروح الامين » .
قلت : فمن أين جاءت هذه الدعايات ؟ .
قال : من أعداء الاسلام الذين يريدون تفريق المسلمين وتمزيقهم وضرب بعضهم ببعض وإلا فالمسلمون أخوة سواء كانوا شيعة أم سنة فهم يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا ، وقرآنهم واحد ونبيهم واحد وقبلتهم واحدة ، ولا يختلف الشيعة عن السنة إلا في الامور الفقهية كما يختلف ائمة المذاهب السنية أنفسهم في ما بينهم فمالك يخالف أبا حنيفة ، وهذا يخالف الشافعي وهكذا ...
قلت : إذاً كل ما يحكى عنكم هو محض افتراء قال : أنت بحمد الله عاقل وتفهم الامور وقد رأيت بلاد الشيعة وتجولت في أوساطهم فهل رأيت أو سمعت شيئا من تلك الاكاذيب ؟ قلت : لا لم أسمع ولم أر إلا الخير وإني أحمد الله سبحانه أن عرفني بالاستاذ منعم في الباخرة ، فهو السبب في مجيئي إلى العراق وقد عرفت أشياء كثيرة كنت أجهلها فضحك صديقي منعم قائلا : ومنها وجود قبر للامام علي ، فغمزته واستدركت قائلا : بل تعلمت أشياء جديدة حتى من هؤلاء الصبيان

( 58 )
وتمنيت لو أتيحت لي الفرصة وتعلمت مثلهم في الحوزة العلمية هنا .
قال « السيد » : أهلا وسهلا ، إن كنت تريد طلب العلم فالحوزة على ذمتك ، ونحن في خدمتك ، ورحب الحاضرون بهذا الاقتراح وخصوصا صديقي منعم الذي تهلل وجهه .
قلت : أنا متزوج وعندي ولدان : قال : نحن نتكفل بكل مستلزماتكم من سكن ومعاش وكل ما تحتاجون إليه والمهم هو طلب العلم ، فكرت قليلا وقلت في نفسي ليس من المعقول أن أصبح تلميذا بعد ما قضيت خمس سنوات وأنا أستاذ أمارس التعليم وتربية النشء ؛ وليس من السهولة أن أتخذ قرارا بمثل هذه السرعة .
شكرت السيد الخوئي على هذا العرض وقلت سوف أفكر في الموضوع بجد بعد رجوعي من العمرة بحول الله ولكني في حاجة إلى بعض الكتب ، فقال السيد : أعطوه الكتب ، ونهض جمع من العلماء وفتحوا عدة خزانات وما هي إلا لحظات حتى وجدت أمامي أكثر من سبعين مجلدا فكل واحد جاءني بدورة من الكتب وقال : هذه هديتي ، ورأيت أنه لا يمكنني حمل هذا العدد الكبير معي خصوصا وأني متوجه إلى السعودية الذين يمنعون دخول أي كتاب إلى بلادهم خوفا من تفشي بعض العقائد التي تخالف مذهبهم ولكني ما أردت التفريط بهذه الكتب التي لم تر عيني مثلها في سابق حياتي .
فقلت لصديقي وللحاضرين بأن طريقي طويل يمر بدمشق والاردن إلى السعودية وفي العودة سيكون أطول فسأمر بمصر وليبيا حتى الوصول إلى تونس ، وزيادة على ثقل الحمل فإن أغلب الدول تمنع دخول الكتب ، فقال « السيد » أترك لنا عنوانك ونحن نتكفل بإرسالها إليك ، واستحسنت هذا الرأي وأعطيته بطاقة شخصية بها عنواني في تونس ، وشكرت فضله ، ولما ودعته ونهضت للخروج ، نهض معي قائلا : أسأل الله لك السلامة وإذا وقفت على قبر جدي رسول الله فبلغه مني السلام وتأثر الحاضرون وتأثرت كثيرا وأنا أنظر إلى عينيه تدمعان ، وقلت في نفسي حاشى لله أن يكون هذا من المخطئين حاشى لله أن

( 59 )
يكون هذا من الكاذبين ، إن هيبته وعظمته وتواضعه تنبيء حقا أنه من سلالة الشرف ، فما كان مني إلا أن أخذت يده وقبلتها رغم ممانعته .
وقام الجميع لقيامي وسلموا علي ، وتبعني بعض الصبية من الذين كانوا يجادلونني وطلبوا مني عنواني للمراسلة فأعطيتهم إياه .
اتجهنا من جديد إلى الكوفة بدعوة أحد الذين كانوا في مجلس السيد الخوئي وهو صديق منعم إسمه أبوشبر ، نزلنا في بيته وسهرنا ليلة كاملة مع مجموعة من الشبان المثقفين وكان من بينهم بعض طلبة السيد محمد باقر الصدر فأشاروا علي بمقابلته وتعهدوا بأنهم سيرتبون لقائي مع حضرته في اليوم التالي ، واستحسن صديقي منعم هذا الاقتراح ولكنه تأسف لعدم إمكانية حضوره لان له شغلا في بغداد يستلزم حضوره ، واتّفقنا على أن أبقى في بيت السيد أبوشبر ثلاثة أيام أو اربعة ريثما يعود منعم ، الذي غادرنا بعد صلاة الفجر وقمنا نحن للنوم وقد استفدت كثيرا من طلبة العلوم الذين سهرت معهم وتعجبت من تنوع العلوم التي يتلقونها في الحوزة فهم زيادة على العلوم الاسلامية من فقه وشريعة وتوحيد يدرسون العلوم الاقتصادية والعلوم الاجتماعية والسياسية ، والتاريخ واللغات وعلوم الفلك وغير ذلك .

* * *